أخبار عاجلة
الرئيسية / البرامج / برنامج البحوث والدراسات / دراسة ميدانية حول الوصمة المجتمعية وعلاقتها بالعودة الجريمة
مؤسسة حياه للتنمية والدمج المجتمعي __3-1-322x330 دراسة ميدانية حول الوصمة المجتمعية وعلاقتها بالعودة الجريمة

دراسة ميدانية حول الوصمة المجتمعية وعلاقتها بالعودة الجريمة

دراسة وأعداد د/ علاء عبد الهادي

البحث الميداني / فريق برنامج التأهيل والدمج

المقدمة:

لم يحظ موضوع من موضوعات قانون العقوبات باهتمام المؤتمرات الدوليّة كما حَظِيَ موضوع العود والاعتياد على الإجرام، فقلما خلا مؤتمر من التّعرض له بطريق مباشر أو غير مباشر، وهذا الاهتمام المتزايد بموضوع العودة للجريمة ليس بمستغرب، فإذا كانت الجريمة في حد ذاتها تعتبر ظاهرة خطيرة يجب على المجتمع أن يعمل كل جهده لوضع القواعد والتدابير الكفيلة للحد منها، فإن ارتكاب الجريمة من ذات الشخص يعتبر أمرًا شديد الخطورة ([1]

من هنا يتناول موضوع البحث قضيّة من القضايا التي تمثل إحدى المشاكل الخطيرة التي تواجه شريحة معينة في المُجتمع (حياة المفرج عنهم)، وتثير كثير من الاهتمامات العلميّة على المستوى الأكاديمي والعلمي، ويُحاول الباحث في هذه الدراسة إلى طرح إحدى القضايا التي تهم المجتمع، وهي قضيّة المفرج عنهم وما يواجهونه من صعوبات شتى داخل إطار المُجتمع التقليدي، ومن خلال تفاعلهم بالمجتمع السوي بعد خروجهم من السجون، وما يواجهونه من معوقات تعترض رغباتهم وقدرتهم على التكيف مع هذا المُجتمع الذي تركوه نتيجة لارتكابهم جريمة ما، وعادوا إليه من خلال وصمة جنائيّة أو اجتماعيّة يتم إلصاقها بهم، وأصبحت جزءًا لا يتجزأ من تاريخهم الاجتماعي، ومصدر من مصادر القلق والتوتر في علاقاتهم الاجتماعيّة.

 

أهميّة الدراسة:

أولًا :الأهميّة العلميّة والتطبيقيّة:

1- ندرة البحوث والدراسات العربيّة عن الموصومين الجنائيين وآثار الوصمة الاجتماعيّة والنفسيّة والاقتصاديّة على الموصوم والمحيطين به، وعلاقة كل ذلك بالانخراط بالمجتمع والعودة للجريمة مرة أخرى، ودور ذلك في إيجاد الحلول المناسبة التي يُمكن أن يستفيد منها المجتمع.

2- عدم فعاليّة الوسائل التقليديّة لمكافحة الجريمة في منع العودة للجريمة، من هنا كان لابد من البحث في أسباب العودة للجريمة.

3- كذلك ترجع أهميّة الدراسة التطبيقيّة إلى ما يمكن أن تُوفره من معلومات عن الوصمة وأثارها الاجتماعيّة على الموصومين، وما تسببه من مشكلات.

4- قد تُوجه نتائج الدراسة أنظار الجهاز الشرطي ومكافحة الجريمة إلى إعداد برامج وأنشطة تأهيليّة للمفرج عنهم ومساعدتهم على الانخراط بالمجتمع.

 أهداف الدراسة:

1- تهدف هذه الدراسة إلى الكشف عن العلاقة بين الوصمة وبين الآثار الاجتماعيّة.

2- الكشف عن رد فعل المُجتمع بكافة هيئاته ومؤسساته وأفراده تجاه الموصوم وأسرته.

3- الآثار الاجتماعيّة للوصمة وعلاقتها بالعودة للجريمة.

 الفروض العلميّة للدراسة:

1- توجد علاقة موجبة دالة إحصائيًا بين الوصمة المجتمعيّة والعودة للجريمة لدى عينة من المفرج عنهم.

2– توجد علاقة موجبة دالة إحصائيًا بين الوصمة المجتمعيّة  للمفرج عنهم وبين عدم قدرتهم على الالتحاق بعمل، وبالتالي عدم الانخراط بالمجتمع لدى عينة من المفرج عنهم.

أدوات الدراسة:

  • استبيان الوصمة المجتمعيّة من إعداد الباحث.
  • نموذج دراسة الحالة.

عينة الدراسة:

      بلغت عينة الدراسة الكليّة مئة فرد من المفرج عنهم، وقد راعى الباحث أن تُغطي العينة مستويات اقتصاديّة مختلفة، وأن ينتموا إلى مدن وقرى، وأعمار مختلفة وتباين مستويات التعليم، مع اختلاف طبيعة الجرائم.

حدود الدراسة :

استغرقت الدراسة الميدانيّة ما يَقربُ من ثلاثة أشهر في الفترة من 15/5/2014 حتى 20/8/2014 من خلال جمع البيانات وطمأنة المفرج عنهم.

أساليب التحليل :

للإجابة على الفروض السابقة استخدم الباحث التحليل الكمي والكيفي للبيانات، ومن خلال ذكر بعض الشواهد من كلام المبحوثين.

مصطلحات الدراسة:

الجريمة والخطيئة:

هناك فرق واضح بين الجريمة والخطيئة، فالأولى خروج على ما يقتضيه نظام المُجتمع المُدوّن وهو القانون، ويقصد به القانون الموضعي، أما الخطيئة فهي ذلك العمل الذي يُخالف الدين مخالفة ظاهرة أو مستترة، فهو كسر وخروج على النظام الذي يعتقد المُجتمع أنه من وضع الله أي الدين. [2]

الوصمة:

تُشير الوصمة إلى أنها هي تلك العمليّة التي تنسب الأخطاء أو الآثام التي تدلُّ على الانحطاط الخلقي إلى أشخاص في المجتمع؛ فتصفهم بصفات بغيضة أو سمات تجلب لهم العار، وتُثير حولهم الشائعات، وتتمثل هذه الصفات بخصائص جسميّة أو عقليّة أو نفسيّة أو اجتماعيّة. فإذا ما لحقت الوصمة بشخص ما اكسبته صفة غير مرغوب فيها تَحرمه من التقبل الاجتماعي؛ لأنه أصبح شخصًا مختلفًا عن بقيّة أشخاص المجتمع، وهذا الاختلاف يكون في خاصيّة من خصائصه الجسميّة أو العقليّة أو الاجتماعيّة التي يُعاني منها، مما يجعله في إحساس دائم بعدم التوازن النفسي([3]).

الوصمة الجنائيّة:

(الوصم) سمة تظل عالقة (بالتاريخ الاجتماعي) لأي فرد مجرم، مما دفع الكثير من الباحثين في مجال علم الجريمة إلى التّأكيد على أن الأساليب العقابيّة التي يتمُّ اتخاذها تجاه المجرمين بأشكالها القانونيّة والاجتماعيّة تُؤدِي إلى انفصال كامل بين هؤلاء المجرمين وبين المجتمع، ويؤكد الباحثون في مجال الجريمة على أن العقوبات الشديدة والقاسيّة تُؤدِي إلى أن يكون رد الفعل متبادلًا بين المُجرم، والمُجتمع، فالمجتمع يقف موقفًا جادًا وحازمًا تجاه المجرم من خلال العقوبة ولصق الوصمة به، والمُجرم يبذل قصارى جهده للاحتفاظ (بهويته) الإجراميّة نتيجة لهذا العقاب القانوني والاجتماعي الصارم الذي قام بتطبيقه المُجتمع، ممثلًا في الهيئات التّشريعيّة التي تقوم بصياغة مثل هذه القوانين ولإحساسه برفض المُجتمع السوي؛ لوجود داخل إطار الحياة الاجتماعيّة العاديّة وقيامه بلصق سمة (الوصم) بشخصيته.

ومن ثم فإن المجرمين الموصومين عادة ما يَشعرون بأنهم يحملون هذه الصفة نتيجة لإحساسهم الذاتي بأنهم بعيدون عن المسار السوي للسلوك الاجتماعي([4]).

ولقد أشار إلى ذلك قول أحد المجرمين المحترفين (دائمًا ما أذهب للعمل على دراجتي، وأجد النَّاس ينظرون إليّ على أني مجرم، فهم على علم بحبسي ويرفضون التعامل معي، يُحاولون تجنبي، هذه النظرة دفعتني للعمل في مكان أخر بعيدًا عن النَّاس الذين يعرفونني، إنه إحساس قلق للغايّة يؤدي إلى الشعور بعدم الثقة)

ويؤكد هذا القول مذكرات إحدى الفتيات التي أُدين والدها في بعض الجرائم، وعاد مرة أخرى إلى الحياة الاجتماعيّة محاولًا إثبات توبته أمام المجتمع، إلا أن وصمته ظلت تلاحقه وتلاحقها، حيث تقول لإحدى صديقاتها (إنني انعزلت نهائيًا عن أي نشاط اجتماعي في المجتمع؛ لأن أبي مجرم سابق، وأبذل من الجهد الكثير؛ لأن أكون ودودة مع كل النَّاس ولكن دون جدوى، لقد أخبرتني الفتيات في المدرسة بأن أمهاتهن لا يردن أن يكون لهن علاقة بي؛ لأن هذه العلاقة ستُسِيء إلى سمعتهن، بالرغم من أن أبي قد قضي فترة عقوبته بالسجن وشعر بأنه مذنب، وعاد من عقوبته مُحاولًا الاستقامة في الحياة، إلا أن المُجتمع بكل فئاته يلاحقه بالتأنيب غير المباشر، والصدود ولا يُريد أن ينسى سلوكه غير السوي والذي سبق أن ارتكبه، بل أن هذا السّلوك أصبح يمسني في كل خطوات حياتي) ([5]).

دراسة الوصمة الجنائيّة باعتبارها مشكلة اجتماعيّة:

إن الرأي لدى عدد كبير من العلماء الاجتماعيين الذين تعرضوا بالحديث في كتاباتهم عن المُشكلات الاجتماعيّة، أن هذه المُشكلات ما هي إلا حالة أو ظاهرة يراها غالبيّة الأفراد، ويقدسها ويخضع لها أفراد المجتمع، وتتحكم في أنماط السلوك العام، ([6]). وربما كان والش وفيرفي walsh furfey من أبرز علماء الاجتماع اهتمامًا بتشخيص المشكلة الاجتماعيّة بأنها: ” انحراف أو خروج عن المُثل الاجتماعيّة، يجري تقويمه بالجهد الجماعي”

ويُضيف بأن هذا التعريف يفترض وجود عنصرين للمشكلة هما: قيام وضع يُنظر إليه على أنه غير مرغوب أو شاذ أو خاطئ أو غير طبيعي، والإدراك بأن مُعالجة هذا الوضع لا تتم إلا بالجهد الجماعي، وأن الفرد عاجز عن معالجته ([7])،. أما راب Rabb فيقول بأن المشكلة الاجتماعيّة تظهر أو تتواجد في حالتين أولهم: إذا بلغت العلاقات السائدة بين النَّاس إلى عرقلة الأهداف الشخصيّة لعدد كبير من الأفراد. والثانيّة: إذا تَعرّض تماسك المُجتمع لتهديد خطير نظرًا لعجزه عن تنظيم العلاقات بين أفراده ([8])  مع وجود ثمة ميل واضح  بالنظر إلى حالات مثل: الجناح والجريمة والإدمان والفقر. بوصفها مشكلات اجتماعيّة أو أنماط انحرافية، وهناك سعي قوي إلى تفسير تلك الحالات بالنظر إلى العوامل التي تُؤدِي إلى ظهورها. وطبيعة الظروف التي تظهر فيها…إلخ.

دون أن تأخذ في الاعتبار رد الفعل المجتمعي إزاء سلوك معين واختلاف ذلك من مجتمع لآخر. وكان لابد من تفسير آخر يُفسح طريقة إزاء ردود الأفعال الاجتماعيّة كمدخل لدراسة المُشكلات الاجتماعيّة، ويأخذ في حسبانه، عمليات التعامل الرمزي، والضبط الاجتماعي فضلًا عن تباين المراكز وتوزيع القوة واختلاف القيم بين الجماعات المختلفة، ولقد تَشكل هذا التفسير من خلال نموذج “التسميّة الاجتماعيّة ” social label  أو ما يُطلق عليّه في بعض الكتابات أحيانًا نموذج رد الفعل الاجتماعي أو “نموذج الوصم الاجتماعي   labeling  أحيانًا أخرى ([9]).

يؤكد النموذج الراهن، أن المُشكلات الاجتماعيّة ليست سوى نتاج لردود الأفعال الاجتماعيّة تجاهها فهي حكم اجتماعي بشأن الاختلاف الفردي والتغاير الاجتماعي. أن ذلك لا يَعني التشكيك في وجودها تمامًا في أي مجتمع ذي قواعد وتوقعات، بقدر ما يُشير بشكل خاص إلى وجودها، وفي عيون ناظريها، فهي موجودة بالقدر الذي تراها فيه بعض الجماعات في المُجتمع كمشكلات اجتماعيّة تعرفها بهذا التعريف، وتتعامل معها على هذا الأساس. يركز هذا النموذج إذن على الأفراد والمواقف والظواهر التي تلفت انتباه النَّاس من خلال التفاعل الاجتماعي اليومي، لتعرف وتعامل كمشكلات اجتماعيّة تعد مسألة ذاتيّة، ويسعون بوجه خاص إلى فهم “ميكانيزمات” الفعل المنحرف أو الحكم على بعض أفراد المُجتمع من قبل ذوي السلطة، بأنها أنماط سلوكيّة منحرفة، بينما لا تُسمي نفس الممارسات السلوكيّة للبعض الأخر من الأفراد بهذه التسميّة. أي أنهم يهتمون في الأصل بالجمهور المُسمي للجريمة لا بالمجرم المقترف للسلوك الإجرامي، ومبرر هذا المنطق الفكري يتحدد في أن الجمهور هو الذي يقوم بتحديد وتسميّة، ومن ثم الحكم على سلوك ما بأنه سلوك انحرافي ([10]).

إن مُنظري هذا النموذج في تصنيفهم للمشكلات الاجتماعيّة، ويسيرون تبعًا لخطوات معينة، فهم يسلمون منذ البدايّة بأن موقف ما، يعتبر مشكلة اجتماعيّة، ومن ثم نجدهم يُحثون النَّاس على تكوين ردود فعل اجتماعيّة تجاهه، وفي سبيل ذلك، يقومون بعمليات واسعة لإقناع الآخرين. فمن خلال التفاعل الاجتماعي يتصل الأفراد بعضهم ([11]) بالبعض الأخر، عن طريق بعض الرموز المشتركة التي تتيح لهم في بعض الأحيان ظروفًا ومواقف غير متوافقة. ينتج أن توافر حكم اجتماعي بصدد هذه المواقف، يُسهم إلى حد كبير في تحويلها إلى مشكلات اجتماعيّة ([12]).

يُضاف إلى ما سبق أن معالجات أصحاب نموذج التسميّة للانحراف والمُشكلات الاجتماعيّة، تَعني في جوهرها أن عمليّة دمغ أو وصم أو تسميّة سلوك ما بأنه” منحرف ” يُحيل إلى مجتمع الذي يقوم بهذه العمليّة، أكثر منه إلى الفعل إلى الشخص الموصوم. وربما يتضح ذلك من نسبية عمليّة الوصم هذه واختلافها من مجتمع لآخر بالنسبة لسلوك معين – على نحو ما أوضحنا قبل قليل – فشرب الخمر – مثلًا- وقد يكون مقبولًا أو يُقابل بالتّسامح في مجتمع معين بينما لا يكون كذلك في مجتمع آخر. ولهذا دلالة بالنسبة للمعايير والقواعد الأخلاقيّة والدينيّة والاجتماعيّة في كل من الحالتين بل أن نسبيّة عمليّة الوصم يُمكن أن تكون قائمة في نفس المجتمع، وذلك حين لا ينظر إلى الفعل المنحرف نفس النظرة من جانب كل المجتمعات ([13]). ويعطي جوزيف جوليان Joseph Julian   مثالًا على ذلك بمدة السجن التي يُحكم بها على المجرمين السود في الولايات المتحدة الأمريكيّة، إذا عادة ما تكون هذه المدة أطول من تلك التي يُحكم بها على المجرمين البيض الذي ارتكبوا نفس الجرائم. وهذا يشير – بالنسبة لأصحاب النموذج الراهن – إلى دلالات خاصة تتصل بتوزيع القوة في المُجتمع الأمريكي.

إن الحقيقة التي ينبغي التّأكيد عليها هنا، هي أن المُشكلات الاجتماعيّة ليست متغيرًا بنائيًا، أو حقيقة موضوعيّة ولكنها ظروف أو حالات تُصبح في ظلها سلوكيات اجتماعيّة أو مواقف معينة معروفة وموصومة أو ” مدموغة ” بأنها مشكلات اجتماعيّة. ويتفق أنصار هذا النموذج على أن السلوك ( أو الموقف المعين ) يتحول إلى مشكلة اجتماعيّة، حين يستفيد شخص أو جماعة – بطريقة أو بأخرى – من وراء دمغ هذا السلوك ( أو الموقف ) بأنه ” مشكل ” ” أو منحرف “.

ويمكننا أن نجد تطويرًا لبعض هذه الأفكار والتوجهات في دراسة بأول هورتن  P. B Hortn  وزملائه، والتي تبدو للوهلة الأولي ذات اتجاه مميز في رؤيتها للانحراف وللمشكلات الاجتماعيّة. فالدراسة تُميز تمييزًا قاطعًا بين الانحراف الأوّلي Primar Deviance ، والانحراف الثانوي Secondary Deviance ، حيث يشير الانحراف الأولي ” إلى السلوك المنحرف العرضي للأفراد الذين يُشكل سلوكهم غالبًا بدايات أو نوايات بسيطة لانتهاك المعايير الاجتماعيّة بطريقة عرضيّة وغير مقصودة، دون أن يترتب على ذلك ردود فعل مباشرة من قبل المُجتمع ” أو يلقب هذا السلوك بالانحراف، مثل: الأفراد المتهربين مع دفع الضرائب الحكوميّة، أو الأفراد الذين يتجاوزون إشارات المرور داخل المدينة. أن مثل هذا السلوك يُسهم بطريقة تلقائيّة في نمو المُشكلات الاجتماعيّة. أن هذا ” الانحراف الأولي” ليس سببًا مباشرًا للمشكلات الاجتماعيّة مثلما يُشكل ذلك ” الانحراف الثانوي” الذي يُمكن أن ينمو في أعقابه. أن الانحراف الثانوي يحدث حينما يُكتشف السّلوك المنحرف، ويُصَّنف مرتكبه على أنه منحرف. إن الصبي المراهق – على سبيل المثال – الذي يرتبط بعلاقة جنسيّة مع فتاة أصغر منه يُصنَّف في حالة اكتشاف هذه العلاقة على أنه منحرف. الأمر كذلك في كل أشكال الانحراف الأخرى مثل: تعاطي المخدرات، الجنسيّة المثليّة ، البغاء… إلخ، التي يُمكن فهم سلوك مرتكبيها بتلك الطريقة، ويُنظر إليهم على أنهم أشخاص من ذوي سلوك منحرف ([14]).

ما نودُّ الإشارة إليه، أن حالة الانحراف التي تَعقب عمليّة الوصم (الانحراف الثانوي) هي حالة يبدأ عندها الشخص الموصوم  يتقبل دور المنحرف كما حدده المجتمع. بل قد تزداد أفعاله المنحرفة من حيث عددها ونوعها بهدف فرض أدوار جديد من الانحراف. فالشخص الذي يُوصم بأنه متعاطي – للمخدرات – مثلًا، يدفعه ذلك الوصم إلى تبني ما يعتبره المُجتمع أسلوب حياة المتعاطين للمخدرات، والذي قد يَتجلى في مقاومة العمل أو العلاج والانخراط في الجريمة والاتصال بالمجرمين… الخ ([15]).

ولقد أوضحت دراسة بأول هورتون وزملائه التي سبق الإشارة إليها بعض الجوانب الهامة الأخرى في فهم وتحليل المُشكلات الاجتماعيّة، استنادًا إلى أن مفهوم الانحراف الثانوي هو مفهوم محوري في نظريّة التسميّة (الوصم). تخلص الدراسة إلى أن الأفراد المنحرفين كان يُنظر إليهم سلفًا على أنهم بغايا أو متعاطون أو لصوص، أو غير ذلك من طرق التصنيف التي يَخلعها عليهم المجتمع. ثم بدأت هذه النظرة تأخذ نمطًا أخرًا، بتزايد أعداد هؤلاء المنحرفين اتجهوا إلى تكوين جماعات خاصة بهم يلتقون فيها مع أقرانهم الآخرين الذين يقترفون نفس السلوك والذين صُنـِّـفوا وإيّاهم على أنهم منحرفون. إن البدايّة تأخذ دائمًا صورة فعل منحرف بسيط يسير في حركة دائمة، وفي سلسة متصلة من الانحرافات التي تنتهي أخيرًا بأن تدفع مرتكبي الفعل إلى المشاركة في عضويّة هذا التنظيم المنحرف الذي يضمُّ العديد من الأقران، الخارجين عن المعايير والقواعد في المُجتمع ([16]).

ولعل أفضل من يمثل هذه النظرة ” هوارد بيكر ” Beckerr. Howard S

   حيث يعرضُ آراءه في كتابة المعنون Outsiders:Studies in the Sociology of Deviance ( 1973 )   ويذهب بيكر إلى أن الجماعات الاجتماعيّة هي التي تضع القواعد والمعايير التي يمثل الخروج عليها انحرافًا، ويُوصم منتهكوها بالخارجين. فالانحراف ليس صفة لسلوك يرتكبه شخص ما، بقدر ما هو نتاج لقيام آخرين بتطبيق قواعد معينة وجزاءات محددة على شخص “مذنب” أن ذلك يَعني أن المُنحرف هو ذلك الشّخص الذي طُبقت عليّه هذه التسميّة، بينما السلوك الانحرافي هو ذلك السلوك الذي أُطلق عليّه الأفراد تلك الصفة ([17]).

ولقد فحص بيكر الدور الذي يلعب مقاولو الأخلاق Moral Entrepeneurrs  والذي يتلخص في صنع القواعد وكيفيّة فرضها بالقوة على المجتمع، أي من يُحددون أنماط السلوك غير المرغوب، وتطبيق العمليات الاجتماعيّة المترتبة عليّه، يدخل في تلك الفئة الشرعيّة ( يعني أعضاء الهيئات التشريعيّة ) والأطباء النفسيين، والصحفيين، والوعاظ، ونواب العموم والمحامين… الخ ([18])

وفي مقالة بعنوان (1967) Whose side Are We On ?  ([19])، يؤكد بيكر على ضرورة قبول الأوضاع العامة والمَعاني الأخلاقيّة التي يُنادي بها الصفوة، ويحذر من الانسياق – على نحو ما يفعلُ بعض علماء الاجتماع – وراء الأحكام القيمة أو اختزال أو تجزئة المُشكلات الاجتماعيّة على نحو ضيق ([20])

وعلى الرغم من أن نموذج الوصم الاجتماعي، وقد نَجح في لفت الانتباه إلى مثل هذه الآراء والتّصورات المتصلة بفهم وتحليل المُشكلات الاجتماعيّة على أساس الدراسة العمليّة لأنماط الانحراف، والعمليات الأساسيّة التي يتضح على ضوئها التنظيم الاجتماعي للمنحرفين، إلا أن النموذج قد وقع في بعض المثالب، التي واجهه بسببها كثير من الانتقادات التي وجهها إليها بعض نقاده ومعارضيه، فمن قال بأن أصحاب نظريّة الوصم، وإن كانوا قد أثاروا بعض التساؤلات حول أساس الوصم ونتائجه، إلا أنهم لم يقدموا أيّة مستويات أو معايير بديلة لتعديل أو تحسين الأحكام المجتمعيّة بشأن إطلاق التسميات على مرتكبي الأفعال المنحرفة، ومن جانب آخر، فقد أكّد نموذج الوصم أن هذا النموذج يميلُ إلى تجاهل الضرر الفعلي الذي تُحدثه أشكال معينة من الانحراف، وأن التركيز على تأثير وصمة العار قد جعل الدراسة الاجتماعيّة لضحايا الظلم والاضطهاد Sociology of Underdog   تَعفي المنحرف عن مسئوليته عن فعله ([21]) وأن النظرة إلى المنحرف كضحيّة أنما تُلقي باللوم والمسئوليّة على المُجتمع وجماعاته المهيمنة ([22]) وثمة نقد آخر مُؤداه أن نموذج الوصم، قد بالغ في تبسيط أسباب الانحراف. حيث يذهب بعض أنصاره إلى القول بأن إطلاق الصفات ( مريض عقلي – مجرم… الخ، مثلًا ) هي الأسباب الرئيسيّة للانحراف ([23]). وفي الوقت الذي يجمع فيه، النُّقاد، على أن أسباب الانحراف الأولى لا تَكمن في عمليّة الوصم ذاتها، وإنّما في مجموعة أخرى متنوعة من الحالات مثل الصراع والفقر مثلًا ([24])

وفي معرض تحليل هذا الجانب من الانتقادات المُوجهة إلى أنصار هذا النموذج، تُؤكد (شاديّة قناوي) بأنهم أي (الأنصار) لم يُحاولوا الإجابة عن بعض التساؤلات مثل لماذا يستمر هذا الوضع غير العادل الذي يُحتّمُ وجود واستمرار عمليّة التسميّة بين الفرد مقترف السلوك المنحرف ومجموعة الأفراد الذين يُسمون سلوكه بالانحراف؟ وما هي طبيعة التكوين الاجتماعي – الاقتصادي التي تُحتّم شروطه المجتمعيّة انتشار الجريمة (الانحراف) بين الأغلبيّة العظمي من أبناء الطبقات الدنيا ([25]).

والحقيقة أن بعض أنصار هذا النموذج يَذهبُون إلى أن البناء الاجتماعي – الاقتصادي للمجتمع الحديث، هو بناء غايّة في التعقيد، لا يُتيح لكل أفراده المساهمة في وضع قواعده وأداء معايير. فالمجتمع الحديث ملئ بالعديد من الجماعات الاجتماعيّة ذات العادات والتقاليد والثقافات المختلفة،  فضلًا عن تَباين المصالح والأهداف. الأمر الذي يترتب عليه أن مسألة اعتراض بعض الجماعات الاجتماعيّة على ما يَسود المُجتمع من قواعد ومعايير أو قوانين إنما يعد أمرًا طبيعيًا، باعتباره – فيما يقرر هوارد بيكر  H. Becker ، نتاجًا عمليًا لتفاعل الجماعات الاجتماعيّة بقيمتها الاجتماعيّة المختلفة. ومن ثَمَّ فإن عمليّة الاختلاف مع – أو الاعتراض على – هذه المعايير، لا يجب بأي حال من الأحوال أن تُحوّل الباحثين عن هدفهم الأساسي، وهو الوصف الدقيق للواقع الراهن، والكشف عن أسباب الظواهر الموجودة به والمشكلات الاجتماعيّة المنبثقة عنها، وهو أمر لم يسع له أنصار هذا النموذج على نحو دقيق، ولم تكشف تحليلاتهم عن وعي كبير بأهميّة البحث في العلاقات السببيّة المتصلة بظهور المُشكلات الاجتماعيّة.

وعلي أيّة حال فأن ما نود الإشارة إليه هنا، أن اعتماد نموذج التسميّة على خاصيّة رد الفعل لتحديد أنماط السلوك باعتبارها مقبولة أو مرفوضة أو انحرافيه أو  سويّة، يعني أن الانحراف كصفة خارجة عن الفاعل أو الفعل، لا يتم إلا في إطار ما يخلقه رد الفعل الاجتماعي من استجابات تؤكد وجود الانحراف أو تنفيه. وعلى الرغم من تأكيد أنصار هذا النموذج على أن الأفعال تتحدد باعتبارها انحرافية، بواسطة خاصيّة “رد الفعل” نحوها، إلا أنها لم تفسر نوع الاستجابات التي تحدد الأفعال الانحرافية أو نماذج ردود الأفعال المجتمعيّة التي يقوم بهذه الوظيفة. كما يرى منتقدو هذا النموذج أنه بتركيزه على ممارسات مُؤسسيّة، يَضيق من المصادر العريضة للمشكلات الاجتماعيّة، وبتوجيهه الكُلي إلى إصلاح الخلل المؤسسي أو ” سوء إدارة ” المُشكلات الاجتماعيّة، الأمر الذي أضعف إسهامه في تطوير رؤيّة اجتماعيّة سياسيّة، يُؤكد على المصادر البنائيّة للمشكلات الاجتماعيّة في المُجتمع المعاصر. ([26])

علي حين يرى البعض الأخر أن الجهود التي يبذلها باحثو هذا المنظور للكشف عن عمليات الوصم وعمليات الضبط الاجتماعي وتوزيع القوة في المجتمع، يمكن أن تُسهم في فهم المُشكلات الاجتماعيّة في علاقتها بسياقات أوسع، إلا أن البحوث التي تمت حتى الآن في هذا النطاق لم تثبت ذلك بعد، ولهذا فإن تأثير هذا النموذج ما زال محدودًا، ولا يمكن التنبؤ به.

ولعل أهم الانتقادات التي يمكن توجيهها لنموذج، أن النموذج لم يفلح في تقديم إجابة واضحة عن أسباب استجابة المُجتمع بطريقة معينة إزاء سلوك معين، ووصفه بالانحراف، واستجابته بطريقة مغايرة لسلوك آخر. فضلا عن غياب أيّة تفسيرات حول بعض الثغرات المُتصلة بأسباب اختلاف معدلات الانحراف من مجتمع لأخر. وارتكاب بعضهم دون غيرهم انحرافات محددة، وكذا اختلاف السلوك أو الفعل (سواء أو انحرافًا) من مجتمع لأخر، وعلى الرغم من أن نموذج التسميّة إن كان قد تَطرق إلى مجالات خصبة لم يتطلع إليها باحثون آخرون، إلا أنه بتركيزه على عمليّة ” رد الفعل المجتمعي ” قد اختزل العديد من الأدوات المتاحة لتحليل المُشكلات الاجتماعيّة، وحصر نتائج جهده في دائرة ضيقة دون محاولة النظر إليها كنتائج لعملية  بنائيّة وثقافيّة وسياسيّة تُمارس تأثيراتها الفاعلة على المجتمع، وتفرض نفسها على جميع أفراده بغير استثناء، ولذلك يظل إسهام النموذج الراهن محدودًا في تقديم منهج ملائم يسمح لنا بالتعرف على المصادر البنائيّة لدراسة المُشكلات الاجتماعيّة المعاصرة.

أثر الوصمة على الموصوم :

لاتكمن أزمة الوصمة فقط في قدرتها على زرع الاكتئاب والقلق في قلب الموصوم، بالإضافة إلى أنها تعمل على انهيار الأخلاق والثقة بالنفس، ومن ثَمَّ الإصابة بالوهن والجمود وعدم القدرة على الإبداع أو حتى العمل، وإنما الأزمة الكبرى للوصمة أنها تُؤثر على عقل الموصوم ومشاعره وسلوكه وتجعله يتصرف على النحو الذي يتوقعه منه المُجتمع الواصم، وهذا ما نستطيعُ أن نطلق عليه “تـشـــرب الوصمـة”.

إن الوصمة هي العمليّة التي تنسب الأخطاء والآثام الدالة على الانحطاط الخلقي إلى أشخاص في المجتمع، فتصفهم بصفات بغيضة أو سمات تجلب لهم العار أو تُثير الشائعات. وتُشير الوصمة إلى أكثر من مجرد الفعل الرسمي من جانب المُجتمع تجاه العضو، الذي أساء التصرف أو كشف عن أي اختلاف ملحوظ عن بقيّة الأعضاء.

خطورة الوصم على الفرد والمجتمع

إذا كانت الجريمة في حد ذاتها ظاهرة اجتماعيّة خطيرة تضرُّ الشعور الجمعي وتُهدد مصالح الجماعة، فإن ظاهرة العود إلى الإجرام تُمثل خطورة أعظم ومشكلة جذورها أعمق، فالمجرم الذي يتردى في الجريمة المرة تلو الأخرى دون أن تُجدي طرق العقاب أو أساليب الإصلاح في ردعه أو تقويمه، يبدو أشد خطرًا على المُجتمع من المجرم الذي يُجرم مرة واحدة فحسب ثم لا يلبث أن يتكيف ثانيّة مع المجتمع، ويخضع لنظمه وقوانينه.

والحق أنه متى خرج النزيل من سجنه، فإنه يواجه المُجتمع بمشكلات متعددة، اجتماعيّة ونفسيّة واقتصاديّة. ويكون في أشد الحاجة إلى من يأخذ بيده ويعينه على تخطي الهُوة التي تفصله بين حياته التي يحياها داخل السجن وحياة المُجتمع الحر الذي يقف على أبوابه. فإذا وجد هذه المعونة من المجتمع، تكيف معه واندمج فيه. أما إذا صادفته المتاعب ولاحقته الصعاب، ووجد تنكرًا من البيئة ونفورًا وصدًا من المجتمع، وصدت في وجهه سبل العيش الشريف، فليس لنا أن نتوقع منه سوى عداء سافر للنظم والمعايير الاجتماعيّة وعود سريع إلى الإجرام ليثأر لنفسه من إهمال المُجتمع لأمره واحتقاره لشأنه. وإذا كان الغرض الأوُّل الذي ينبغي أن تَهدف إليه أيّة سياسة إصلاحيّة ينحصر في إعادة المسجون إلى الطريق السوي وإدماجه في المجتمع، فإن السبيل إلى تحقيق هذا الهدف يجب أن يكون بمحاولة العمل على تجنب نكسته حتى لا يعود إلى الجريمة مرة أخرى.

وترجع صعوبة مشكلة تكيف المفرج عنهم مع المُجتمع إلى عدة عوامل يعود بعضها إلى السجن بما يسببه من انسلاخ المذنب عن روح المُجتمع ومفاهيمه وقيمه، ثم أثره في الحياة التي يحياها السجين في مجتمع كل أفراده من المذنبين، ثم أثر حرمان الأسرة من عائلها وما يتبع ذلك من تمزق وتشرد وفقر وتحلل خلقي وانهيار الحياة العاطفيّة للأسرة. أما أعظم القيود المُضنيّة التي ينوء تحت عبئها غالبيّة خريجي السجون والتي كانت ومازلت تقف عبئًا في سبيل تكيفهم مع المجتمع، فترجع إلى المُجتمع نفسه الذي يضع من العقبات والتشريعات ما يجعل السجين شخصًا منبوذًا، ويرى أن إيداعه السجن يجب أن يتبعه سلب كل أو بعض حقوقه المدنيّة، فيحرص بذلك المواطنين الصالحين على عدم الثقة فيه، ووضع أمامه من العراقيل والموانع القانونيّة والأدبيّة ما يحرمه من العودة إلى عمله السابق، وما يجعل أمر عودته إلى مكانته الاجتماعيّة السّابقة يكاد يكون مستحيلًا.

والركيزة الأساسيّة لحدوث مثل هذه المُشكلات لا تَكمن فيما اقترفه المفرج عنه من جرم أدى للزج به في السجن، ولكن تكمن في الوصمة )الانحرافيّة أو الإجرامية) التي أُلصقت بكل من يدخل السجن لقضاء عقوبة سالبة للحريّة (ولو كانت قصيرة المدة ). تلك الوصمة التي ستلحق كذلك بكل فرد من أفراد أسرته وعائلته أو من يرتبط به بعلاقة أيًا كان نمطها، كنتيجة للصورة الذهنيّة السيئة المُترسخة داخل أذهان أفراد المُجتمع عن كل من يرتبط بنمط من العلاقات مع أفراد تلك العائلة دونما أي ذنب اقترفوه.

وتعتبر الوصمة من النتائج المترتبة على الإدانة وصدور الحكم بعقوبة جنائيّة، وهي معنى رمزي داخل إطار أي مجتمع إنساني تعكس ما وصل إليه المجرمون من انحطاط خلقي وخروج عن قواعد المُجتمع ومعاييره، ومن ثم يلجأ المُجتمع إلى رد فعل يُوضح مدى امتعاضه وكراهيته لهذه السلوكيات، وذلك من خلال وصفهم بصفات وسمات تحمل بين طياتها معنى الشذوذ والعار.

فالوصمة تُشير إلى أن الفعل الرسمي والإدانة لا يُمثلان نهاية المطاف بالنسبة للمجرم إنما هناك عقوبات اجتماعيّة تظل عالقة بهذا الإنسان، وبمن يحيطون به تنعكس في دورة الحياة وتنتقل لكل جوانب حياته؛ مما يَعوق حركة التفاعل الاجتماعي بينه وبين المُجتمع الإنساني.

والجدير بالذكر أن العديد من الباحثين قد اتجهوا إلى دراسة الجريمة بأنماطها المختلفة والمتباينة، والأدوار السلبيّة التي تقوم بها داخل أطر المجتمعات الإنسانيّة، وما ينتج عنها من آثار سلبيّة على البناء الاجتماعي لأي مجتمع. إلا أنه مع ذلك فإن هناك نُدرة في الأبحاث التي تمَّ إجراؤها عن الدور السلبي الذي يعود على المجرم وكل من ينتسب إليه ويرتبط به بصورة مباشرة نتيجة لجريمته، هذه الآثار التي يُمكن اعتبارها توابع اجتماعيّة مستمرة نتيجة لجريمة تظهر وتتضح بعد إلصاق صفة الوصم به وبأسرته، وتظل تابعة له في حياته الاجتماعيّة منذ أن يدخل قفص الاتهام إلى أن يَقضِي مدة عقوبته، وبعد أن يعود مرة أخرى إلى الحياة الاجتماعيّة السويّة.

ومن هنا يجب أن ننتبه إلى ملامح الرفض الاجتماعي الذي يُلاقيه المفرج عنهم وأسرهم، والتي تدور حول الوصمة الجنائيّة وكيف ينظر إليها أفراد المجتمع، والمواجهات الاجتماعيّة المتتاليّة التي يتعرض لها المفرج عنهم، وهم يَحملون تلك السمات والخصائص التي يرى المُجتمع أنها لاتتفق مع اتجاهاته ومقوماته الاجتماعيّة، والعقبات المتتاليّة التي يتعرض لها الموصوم في حياته وآثار هذه الوصمة عليه في عمله وفي حياته الأسريّة وعلاقاته الاجتماعيّة.

التعارض بين منهج العقوبة ومنهج التأهيل في التعامل مع مخالفي القانون:

قد ذهب جورج هربرت ميد إلى أن الوصمة الاجتماعيّة تزداد بناءً على حجم العقوبات المفروضة على مخالفي القانون ونوعها. فأكّد أن العقوبات الصارمة المرتبطة بالمتابعة والمقاضاة، مسألة تتعارض مع إعادة تكييف المنحرف. كما أن الإجراءات التي تتخذ نحو مخالفي القانون، تُؤدِي إلى تدمير التفاعل بينهم وبين المجتمع، مما يخلق روح العداوة عند المنحرف. وينطوي توجه “ميد” على أن نظام العقوبات هو نظام فاشل تمامًا، وأن فشله لا يقتصر على عجزه عن ردع الانحراف فقط، وإنما يمتد إلى تكوين فئة إجراميّة.

إن المبالغة في تطبيق الجزاءات تُثير الحقد والعداوة عند المنحرف. كما يُؤدي الاتجاه العدائي من جانب المُجتمع إلى مزيد من الانحراف. وأن عدم الاتساق في فرض العقوبات هو أهم ما يُعرّض الشباب لاحتراف الجرائم، لإحساسهم المتزايد بالظلم؛ إذ مهما كانت فداحة الذنب الذي يرتكبه الفرد، فربما تكون هناك درجات من الإجرام لم يصل إليها بعد. فإذا شعر أن المُجتمع يتصرف نحوه بطريقة طاغيّة وعنيفة، فالنتيجة الطبيعيّة لذلك هي الشعور بالاغتراب عن المجتمع، والنظر إلى زملائه المجرمين بوصفهم الأشخاص الذين يُعاملونه باحترام ورفق. لذا، قد يُغادر السجين السجن وهو عدو للمجتمع. وأكثر ميلًا عن ذي قبل إلى مواصلة الانحراف الإجرامي.

لذا أكّد ليمرت على أن رد الفعل المجتمعي إزاء السلوك المنحرف، غالبًا ما يَقضي إلى تقويته وليس إلى اختزاله؛ فالسجون-مثلًاـ تلعب دورًا فعالًا في إفراز المجرمين والعتاة منهم أكثر من إصلاحهم. وأينما كانت الأسباب الأصليّة لسلوك المنحرف أو للانحراف الأوَّلِي فإن الجزاءات الاجتماعيّة تُؤدِي إلى الانحراف الثانوي حسبما يقول المثل:”إذا افترضت الشر في شخص ما فسوف يعيش شريرًا “.

ويوضح هذا اعتماد مفهوم الوصمة على عدد من المعاني المُرتبطة بالفعل والفاعل والظروف وأفكار وشخصيّة ومعتقدات الفرد الموصوم، وكذلك أفكار ومعتقدات المجموعة التي تُطبق الوصم.

وبناءً على ذلك يوضح بيكر أن الانحراف يُنشئه ويُخلقه المجتمع. وهو لا يعني المفهوم العام الذي يُشير إلى أن أسباب الانحراف تَنبع من الواقع الاجتماعي للمنحرف أو من المتغيرات الاجتماعيّة التي تدفعه إلى الانحراف، وإنما يَعني أن الجماعات تُساعد على خلق الانحراف بوضعها في القواعد التي يمثل الخروج عنها انحرافًا، وتطبيقها لهذه القواعد الاجتماعيّة ضد بعض الأشخاص، ومن ثمَّ وصمهم بالخارجين عن القواعد الاجتماعيّة.

ووفقًا لذلك يصبح تعريف الانحراف لا علاقة له بواقع أو خصائص الفعل الذي يخالفه الفرد، وإنّما هو نتاج مباشر لما قد يترتب على تطبيق القواعد الجزائيّة ضد المخالف من آثار سلبيّة. ومن ثم فالمنحرف هو الشخص الذي يتم إلصاق الوصمة به، أو السلوك الذي يُوصم الفرد به من قبل الجماعة أو المجتمع.

يتضح مما سبق أن المجتمعات هي التي تحدد الانحراف بإقرار بعض القواعد، التي يعد انتهاكها انحرافًا من منظور بناء ذلك المجتمع. وأن الانحراف ليس خاصيّة للفعل الذي يرتكبه الفرد، وإنما هو مسألة تتعلق بثقافة المُجتمع وبنظرة أبنائه؛ وبمعنى آخر فإن الانحراف ليس صفة يوصف بها السلوك في ذاته، وإنما خاصيّة يخلعها المُجتمع على سلوك معين، في ضوء القيم والمعايير السائدة.

أما عن كيفيّة حدوث الوصم، فيذهب بيكر إلى أن المضمون الرئيسي لهذه العمليّة يتركز أساسًا على التأثيرات المهمة، التي يُحدثها إلصاق صفة الانحراف بأفراد معينين. مثال ذلك: كيف يُنظر إلى هؤلاء من قبل بقيّة الأفراد في المجتمع، وكيف ينظرون لأنفسهم؟ وأخيرًا أثر هذا الوصم على أنماط التفاعل بين هؤلاء الأفراد وبين الآخرين؛ لأن وصف فرد ما بصفة الانحراف يعني أن هذا الفرد والجماعة المحيطين به ينبغي أن يكيفوا أنفسهم على التعامل معًا بوصف أن هذا الفرد ذو شخصيّة غير سويّة، ومن ثم تحدث عمليّة الوصم.

وبناءً على ذلك يتحدد مفهوم الوصم من خلال العناصر التاليّة :

1- يتسم المُجتمع الإنساني بوضع العديد من القواعد الاجتماعيّة، التي تُنظم السلوك الإنساني وتحفظ للمجتمع توازنه واستقراره.

2- يتحدد نوع سلوك الفرد من خلال تطبيق هذه القواعد المنظمة للسلوك عليه، ومن ثم فإن تحديد السلوك بكونه (منحرفًا) يكون من خلال رد الفعل تجاه هذا السلوك ولا يرجع للسلوك ذاته، فلم يكن هناك رد فعل فلا يكون هناك انحراف.

3- عندما يدرك المشاهدون الاجتماعيون سلوكًا ما ويصمونه بالانحراف، فإن مُرتكب هذا السلوك يوصم أيضًا بالانحراف، ويكتسب صفة مجرم أو منحرف.

4- ينظر المشاهدون إلى الفرد حال وصمه بأنه يتصرف في ضوء ما وُصم به؛ فالشخص الموصوم بأنه مجرم يُنظر إليه بالدرجة الأولى بأنه مُجرم، مع تجاهل السمات الأخرى التي يُسلّم بها.

5- يراقب -عادة- من صدر عنهم رد الفعل )الأفراد- الجماعات ) هؤلاء الذين وُصموا بأنهم منحرفون، لأن من المحتمل عودتهم لارتكاب السلوك الإجرامي نفسه مرات أخرى.

6- يكون رد الفعل الاجتماعي –غالبًا -تجاه الموصومين وما يصاحبه من مواقف واتجاهات سلبيّة نحوهم من أفراد المُجتمع وجماعاته ومؤسساته الرسميّة. معبرًا عن الاستنكار والسخريّة والرفض والنبذ الاجتماعي لهم ولأسرهم بصفة خاصة، ما يَفرض عليهم نوعًا من العُزلة الاجتماعيّة.

7- يترتب على رفض المُجتمع ونبذه الموصوم سلوكًا منحرفًا (انحراف ثانوي)، ويعد نتاجًا لتقبل الوصم بوصفة هويّة ذاتيّة تُؤدِي بالموصوم إلى الاتجاه نحو امتهان الجريمة والانحراف، والابتعاد عن مزاولة النشاط المشروع.

 الجذور التاريخيّة للوصم:

يعتبر اليونانيون أوُّل من  استخدموا كلمة (الوصم)، حيث تُشير الكلمة عندهم إلى أن هناك علامات جسمانيّة تكشف عن كل ما هو عادي سيء من الناحيّة الأخلاقيّة للشخص الذي يُمارس سلوكًا غير سوي، ويعني هذا أن من كانوا بهذا الأمر يحملون علامات جسمانيّة من حفر أو حرق، وتَعني هذه العلامة أن حاملها عبد أو مجرم أو خائن، وأنه شخص قد تَجاوز في تصرفاته كل القيم والعادات والقوانين التي أقرها المُجتمع وأنه (موصوم) وأن الضرورة تتطلب من أفراد المُجتمع تجنبه والابتعاد عنه، وخاصة في الأماكن العامة، وهذا الفرد ممنوع من مخاطبة الشرفاء أو الزواج من بناتهم أو الشراء من أسواقهم([27]).

وترجع جذور نظريّة (الوصم) إلى ما أدركه “دوركايم” منذ فترة طويلة أن كثيرًا من الأفراد يتجهون إلى الانحراف ليس بسبب سمات متأصلة في ذواتهم تدفعهم إلى الجريمة والانحراف، ولكن بسبب تلك النظرة والانطباع الاجتماعي الذي تكّون ضدهم من قبل المُجتمع الذي أَلصق بهم (وصمة) معينة نتيجة لسلوكهم الانحرافي، وأن هذه الوصمة تظل عالقة في تاريخهم الاجتماعي، ومن خلال الرؤى المتعددة والمتباينة لكل من يتعامل معهم.[28]

ويشير ميرتون Merton إلى أن هناك أشكالًا معينة من الانحراف ناشئة عن البناء الوظيفي للمجتمع نفسه والطرق التي من خلالها يؤدي البناء الاجتماعي وظائفه، حيث تعتمد أساسًا دراسته على اكتشاف الكيفيّة التي تُمارس فيها الأبنيّة الاجتماعيّة العديد من الضغوط على أشخاص معينين في المُجتمع تدفعهم لارتكاب سلوكيات منحرفة، ولو تمكنا من أن نحدد الأفراد والجماعات التي تتعرض لهذه الضغوط سنجد أن فيها معدلات مرتفعة من السلوك المنحرف، وهذه المعدلات نتيجة للوضع الاجتماعي الذي تجد نفسها فيه[29].

وفيما يتصل بنظريّة التفكك الاجتماعي Social Disorganization لدراسة البيئة الحضريّة فنجدها اعتمدت على كثير من الافتراضات الخاصة بتلك النظريّة – حيث تشير إلى كيفيّة ارتباط الكائنات الإنسانيّة ارتباطًا عضويًا بالبيئة التي تعيش فيها، حيث أشار “برجس” من خلال هذه النظريّة إلى أن الظروف السكنيّة السيئة والفقر وعوامل التغير السكاني التي تتسم بها الأحياء الفقيرة هي المسئولة عن ارتفاع معدلات الجريمة في تلك الأحياء، ولقد أوضحت هذه النظرية أن التغير الاجتماعي، وما ينتج عنه من سرعة درجات التحضر والحراك السكاني والهجرة يساعد على ظهور أحياء فقيرة تعيش فيها جماعات لاتملك مقومات الحياة المستقرة الأمر الذي يدفعهم إلى حالات من القنوط، ومن ثم ارتكاب السلوك الإجرامي[30].

إن الوصمة عمليّة عادة ما يلجأ إليها أفراد المُجتمع تجاه هذا الفرد يستطيعون من خلالها استمالة وتركيز واقتلاع السمات مدار الشكوى والقلق من الآخرين، وذلك من خلال رد الفعل الاجتماعي تجاه هذا الفرد، وسواء كان القائم بعمليّة (الوصم) ورد الفعل وسائل الضبط الرسمي المتمثلة في المؤسسات العقابيّة والإصلاحيّة، ومن يعمل بها من أفراد، أو المؤسسات التربويّة غير الرسميّة المتمثلة في الأسرة وجماعات الرفاق، فإن الفرد (الموصوم) نتيجة لذلك دائمًا ما يفقد الإحساس بالرغبة في محو هذه الصفة، ومن ثم يتحول إلى محاولة التكيف معها.

ولعل أبرز من كان لهم تأثير ودور في ظهور نظريّة الوصم “ادوارد ليمرت” في كتابة عن الأمراض الاجتماعيّة  Social Pathology 1951 حيث يرى من خلال هذا الكتاب أن رد الفعل يعتبر المسئول والمحدد الأول لطبيعة سلوك الفرد، وأوضح أن وصف السلوك المنحرف أو غير السوي لا يعود أساسًا إلى جوهر السلوك، وإنّما مرجعه إلى ردود الفعل المجتمعيّة الناتجة عن هذا السلوك، وقدّم تحليلًا اجتماعيًا لرد الفعل الاجتماعي من خلال عنصرين، الأول: أعضاء المُجتمع ودوره في لصق صفة (الوصم) بالفرد المنحرف، أما الثاني: فيتمثل في المنحرف وسلوكه الإجرامي الذي يلعب دورًا مهمًا في إلصاق هذه الصفة به. وبناء على ما سبق فإن “ليمرت” وضع مفهومي الانحراف الأولي Primary Deviance والانحراف الثانوي  Secondary Deviance ويعني الانحراف الأولي تلك السلوكيات المنحرفة التي نتجت عن ظروف وعوامل متباينة كالعوامل الاجتماعيّة التي تتصل بالمجتمع الذي يعيش فيه الإنسان وما يحويه هذا المُجتمع من قيم وعادات وتقاليد ونظم واتجاهات اجتماعيّة مختلفة قد تحددت وتم تنظيمها من قبل المُجتمع باعتبارها نماذج سلوكيّة ارتضاها المُجتمع، واتفق على أن تكون أساسًا لحياته وأمنه لاستقراره، ومن ثم فمن يخرج عنها ويحاول أن يبتعد عن منهجها فهو من وجهة نظر المُجتمع مخالف وغير سوي ومجرم. وهناك عوامل شخصيّة تتصل بما يحيط بالإنسان المنحرف وغير السوي من ظروف نفسيّة وعلاقات تُؤثر على نفسيته وتدفعه لأن يسلك طريقًا منحرفًا، وعوامل تتصل بالفرد وتعوق حركة التوافق النفسي بينه وبين عوامل التكيف الاجتماعي مما يُؤدي إلى انحرافه.

يظهر الانحراف الأولي في صورة سلوك مرتبط بسبب أو أسباب أخرى مثل انتماء الشخص إلى جماعة أقليّة ذات قيم ومعايير تُخالف القيم والمعايير التي تحبذها وتؤيدها الجماعة المسيطرة. أما الانحراف الثانوي  Secondary Deviance فيشير إلى السلوك المنحرف الذي تم ارتكابه نتيجة لمفهوم المرء لذاته، ومن خلال نظرة الأخرين له، والتي تتسم بعدم القبول الاجتماعي بهذا الفرد، ونتيجة لمشاكل التفاعل الاجتماعي التي نتجت وتولدت عن تلك النظرة المجتمعيّة للفرد باعتباره منحرفًا، وما ينتج عن معاملات لهذا الفرد من قبل أفراد المجتمع.

ويرى “ليمرت” أن هذا الانحراف الثانوي يُمكن التوصل إليه من خلال العديد من الخطوات المتسلسلة تبدأ عادة بالانحراف، وتنتهي بقبول المرء لوضعه الانحرافي، وهذه السلسلة المتتابعة تتمثل في:

  • الانحراف الأول.
  • العقوبات والجزاءات الاجتماعيّة.
  • انحراف أولي آخر.
  • عقوبات أقوى من سابقتها ومرتبطة بفكرة الرفض لشخصيّة هذا المنحرف.
  • لجوء هذا الفرد للانحراف مرة أخرى، ومرتبط هذا الانحراف بأحاسيس الكره والبغض لهؤلاء الذين قاموا بتطبيق الجزاءات الاجتماعيّة والقانونيّة على المجرم.
  • ينتج عن كل ذلك رد فعل اجتماعي دائم ومستمر ومتمثل في لصق صفة الوصم بالمجرم.
  • ينتج عن هذا الرد إحساس بالكراهيّة من المجرم تجاه المُجتمع وأفراده، متمثلًا في الإحساس بالعزلة التي فرضت عليه، الأمر الذي يدفعه إلى التمسك بالسلوك الإجرامي والتعايش معه كجزء من إطاره الشخصي والسلوكي.
  • أيضًا ونتيجة لقرار المُجتمع بتوقيع الجزاءات ضد الفرد ووصفه بتلك الوصمة الدائمة فإنه – أي – الفرد يقبل وضعه الاجتماعي الجديد (صفة الوصم) – ويحاول التأقلم مع دوره الجديد المتمثل في كونه مجرمًا (موصومًا) ويتجه إلى تطوير نظرته إلى العالم الانحرافي بما يشمله من معرفة ومهارات ويعمل على بناء تصور ذاتي Selfy Concept يتمثل من خلال الصورة الذهنيّة التي أدركها من خلال أفعال الآخرين نحوه.[31]

 

أنـــواع الأفـــــراد تــــبـــعًـــا لــــمـــوقـــفــهـــم مــن الـــوصـــمـــة :

الموصوم: ذلك الشخص الذي يحمل الوصمة.

الطبيعي: هو الشخص الذي لا يحمل الوصمة.

الحكيم: هو شخص ( طبيعي ) ولكنه يتقبل الموصوم.

ويتعرض هنا الشخص الحكيم إلى مشكلة وهي أزمة الحكيم : حيث يكون الشخص الحكيم قريبًا جدًا من الحياة السريّة للموصوم، وغالبًا مُطلع على تفاصيل الوصمة ومتعاطف معه، ويتم وصمه بكونه (حكيم ) أي متصالح ومتقبل للموصومين، فيقوم (الطبيعيون) بإضفاء عضويّة شرفية عليه لمجموعة الموصومين،  مثال لذلك  آباء الشواذ جنسيًا والمرأة البيضاء التي تصادق رجلًا أسود البشرة.

وتتكون الوصمة على عدة مراحل خـــطـــوات تــكـــوّن الـــوصــمـــة:


أولًا:التصنيف الاجتماعي

يميل جميع البشر بشكل روتيني إلى التصنيف، فنحن نقوم بتصنيف الكائنات الحيّة إلى أنواع وعشائر وفصائل الخ. ونقوم أيضًا بتصنيف الجمادات إلى صلب وسائل وغاز. نحن لا نكاد لا نترك شيئًا إلا ونقوم بتصنيفه، ونقصد بتصنيف الشيء، أي ضمه إلى أقرب مجموعة من الوحدات التي تشبهه. ويعتبر التصنيف ضروريًا لاختصار الوقت والجهد في فهم واستقبال العالم من حولنا، ونحن نقوم أيضًا بتصنيف البشر من حولنا، فمثلًا نقوم بتصنيفهم حسب اللغة والدين والجنس والجنسيّة،  بل نصنفهم حسب بعض الصفات الخاصة جدًا مثل: التشوهات الجسديّة والاختلافات السلوكيّة.

ثانيًا: تحديد الموقع :

بعد تصنيف البشر إلى مجموعات يقوم كل واحد منا بتحديد موقعه من كل مجموعة متسائلًا هل هو واحد من أفرادها، وينتمي إليها فعليًا ( إن جروب ) In Group أم هو من خارجها ولا ينتمي إليها إطلاقًا ( أوت جروب)Out Group

ثالثًا: بناء الحواجز:

بناء الجدر العازلة بين المجموعات  بين (الإن جروب) و (الأوت جروب (يقوم كل فرد داخل مجموعته ( إن جروب ) بالبحث عن الفوارق بين المجموعتين إن وأوت ويظل في بحث مستمر عن تلك الفروق حتى يصل به الأمر إلى اختراع فروقات وهميّة بين المجموعتين، والهدف النهائي هو عزل المجموعتين، ويعتقد أن الهدف النفسي من هذا الإجراء هو استدعاء الشعور بالأمان بسبب الخوف الغريزي من الغرباء.


رابعًا: كسر الحواجز داخل كل مجموعة

يميل العقل إلى إدراك أن أفراد كل مجموعة متشابهون بل متطابقون في الصفات فهو يرى نفسه جزءًا من مجموعة كلها متشابهة في الصفات الجيدة ( إن جروب )، وهو يرى أيضًا أن المجموعات الأخرى ال (أوت جروب) التي قام في الخطوة السابقة بإبعادها ونفيها يرى أفرادها متشابهون جدًا، ولكن غالبًا في الصفات السلبيّة.

خامسًا:الربط Association

يقوم فيها أفراد ال (إن جروب) بلصق صفة سلبيّة بالصفة الأساسيّة لأفراد الـ(أوت جروب) مثال :يقوم أفراد مجموعة البشرة البيضاء ( إن جروب ) بلصق صفة ( الإجرام( لأفراد مجموعة البشرة السوداء ال (أوت جروب)

سادسًا:التعميم          Generalization
لا يتم الاكتفاء بلصق الصفة بل بالحكم على جميع أفراد المجموعة ال (أوت جروب) بأنهم حتمًا يحملون تلك الصفة السلبيّة  مثال: كل أصحاب البشرة السوداء مجرمون وليس بعضهم.

سابعًا:التوقع Expectation

يتوقع فيها أفراد ال(إن جروب)  سلوكًا سلبيًا من أفراد ال(أوت جروب) نتيجة لافتراضهم مسبقًا أنهم ( جميعهم) يحملون تلك الصفة السلبيّة التي تم لصقها مثال: يتوقع كل فرد أبيض البشرة سلوكًا سلبيًا من أفراد البشرة السوداء.

ثامنًا :التعصب  Prejudice

هي تلك المشاعر السلبيّة نتيجة التوقع وانتظار السلوكيات الجانحة من أفراد الأوت جروب، وتتمثل في الشعور بالاحتقار والرفض والعدوانيّة والدونيّة.

تاسعًا: التمييز                                                                   Discrimination
ويعتبر التمييز هو رد الفعل الطبيعي لعمليّة التنميط السابقة ( السبع خطوات الأولى)، يقوم أفراد (الإن جروب) بالتصرف تلقائيًا بشكل عدائي تجاه أفراد ال (أوت جروب ) نتيجة توقعاتهم المُسبقة بأنهم أفراد سيئون فيقومون بعزلهم اجتماعيًا أو حرمانهم من حقوقهم أو حتى معاقبتهم بغير جرم. فما دام المختلف عنا سيئًا، وما دام سبب هذا السوء أنه يحمل صفات مختلفة عنّا، فهذا يعني بالضرورة أننا طيبون لأننا لا نحمل تلك الصفات التي وصمته بالسوء.

نظريّة التطهر في تفسير صناعة الوصمة:

نحن كبشر نميل إلى حماة ذواتنا من أي خطر يهدد  الأنا نحن نخشى كثيرًا أن نكتشف عيوبنا الذاتيّة وضعفنا الداخلي، نحن جميعًا نبحث على الدوام عن ((المختلف الأضعف)) كي نُلقي عليه كل عيوبنا الداخليّة كي نشعر بالتطهر.

صورة الحياة لدى المسجون قبل الإفراج:

تبدأ الحياة الجديدة لدى المسجون بمجرد النطق بالحكم ودخوله مجتمع السجن بما فيه من تناقضات اجتماعيّة جديدة مختلفة، كان يعيش هذا المسجون من قبل داخل المُجتمع السوي، وعليه فإن المسجون بمجرد وصوله ودخوله إلى السجن يعيش العديد من التصورات الفكريّة المؤلمة، والتي تندرج جميعها في نطاق من القلق والتوتر إزاء حاضره ومستقبله، كما تتنابه أحاسيس متباينة من تأثير الذات؟ حيث يعيش داخل السجن وهو على يقين كامل بأن المُجتمع قد لفظه وطرده، ومن ثم يعيش أحاسيس متباينة تعبر عن كونه منبوذًا ومطرودًا، هذه الأحاسيس التي تجعله يقع فريسة للصراع النفسي والتوتر والإحساس بالاغتراب النفسي والاجتماعي الذي يجعله في حالة قصور دائم من الكراهيّة للقانون والجهات الأمنيّة ذات العلاقة؟ والمحاكم التي تتولى إصدار الأحكام عليه لما كان لهم من دور في انفصاله وبعده عن أسرته وبيئته وأصدقائه وعمله.[32]

والكثير من النزلاء لهم مشاكل عالميّة خارج السجن، والتي يُدركون أن السجن هو السبب الرئيسي لها، إلى جانب ما يعيشوه من أحاسيس وتوقعات مستقبليّة يتصورونها عن النَّاس والمجتمع بعد خروجهم من السجن، ومخاوفهم من المُجتمع السوي المتربص بهم؟ حيث يشعر الكثير منهم بأن المُجتمع لن يترك لهم فرصة للتوبة.

الواقع الاجتماعي الجديد عند الإفراج

لاشك أن ابتعاد المسجون عن بيئته وأسرته وأصدقائه خلال تواجده بالسجن تهمين عليها أحوال كثيرة بسبب وصم صاحبها، أو نتيجة مشاغل الحياة وصراعاتها المختلفة، أو يتجه لإحساس الآخرين بأن مكانتهم الاجتماعيّة وصورتهم السويّة يجب ألا تكون فيها نقطة سواء من خلال هذه العلاقة يمثل هذا المسجون، وعليه فإن حالات الإفراج تُمثل معاني وأفكارًا متتابعة لدى المسجون، حيث يعيش المسجون قبل الإفراج حالات من القلق مشوبة بحالات من السعادة والفرح والحذر المشكوك فيه.[33]

نظرة المفرج عنه لذاته:

ينظر كل من يُخالف الطبيعة الاجتماعيّة السويّة إلى ذاته نظرة تتسم دائما بالدونيّة والإحساس بالضعف الاجتماعي نظرًا لعوامل الضغط الاجتماعي التي تفرض عليه من جرّاء مخالفته لقواعد المجتمع. ويُؤكّد ذلك الكثير من أفراد المُجتمع الأسوياء هذه التصورات، فقد ينظر أفراد المُجتمع الأسوياء إلى مثل هذا الشخص باعتباره فاقدًا للأحاسيس الاجتماعيّة والرغبة في التفاعل الاجتماعي السوي، إلا أن هذه النَّظرة غير صحيحة، فعلى الرغم من تحديه لقيم المُجتمع يشعر بينه وبين نفسه بأنه منبوذ ومغضوب عليه، وإن المُجتمع لا يريد أن يفسح له الطريق للانخراط له، مما يجعله في صراع دائم بين الواقع المُؤلم المتمثل في نظرة المُجتمع له ونظرته لذاته وعدم وجود عوامل تساعده على الاستقرار.[34]

  الموصوم جنائيًا وعلاقته بالقانون:

اتجه العديد من علماء الجريمة والمهتمين (بالوصمة الجنائيّة) إلى التأكيد على أن ثمة علاقة قويّة بين (الوصم والمجتمع)، بل إن الافتراض الرئيسي (للوصمة الجنائيّة) يَدورُ حول اعتبار أن الجريمة والانحراف ظاهرة من صنع أجهزة المُجتمع القانونيّة، إذ تقوم هذه الأجهزة ممثلة في الهيئات التشريعيّة والتنفيذيّة ونحو ذلك بإلصاق صفة الانحراف بشخص ما، مما يجعل ذلك الشخص يتصرف وفقًا لما ألصق به([35]).

ولقد أوضح “ليمرت” أن من المشاكل التي تدفع بالكثير من المجرمين إلى العودة مرة أخرى إلى الجريمة، مشكلة التفاعل مع المُجتمع العام والمجتمع المحلي، والتي من الصعب وجود حل لها على اعتبار أن بدخول المجرم دائرة القبض والإدانة والحكم، فإن المُجتمع ينظر إليه باعتباره منحرفًا، ويتم التعامل معه على هذا الأساس، ومن ثم يلجأ هذا المجرم إلى القيام بردود فعل تجاه المُجتمع متمثلًا في القبول النهائي للوضع الاجتماعي المنحرف مع محاولة التأقلم مع الدور الجديد([36]).

ولقد أكّد “بيكر” هذه الصورة المترابطة بين الموصوم جنائيًا والقانون حينما أبرز حقيقة هذه العلاقة، عندما أكّد على أن الانحراف يظهر ويوجد عندما يوصم الفرد رسميًا بالانحراف، حيث يقول: “إنني لا أقصد من وراء ذلك أن أسباب الانحراف على صلة وارتباط بالوضع الاجتماعي للانحراف أو العوامل الاجتماعيّة التي تُؤدِي إلى هذا التصرف، ولكن كل ما أعنيه أن الجماعات الاجتماعيّة تصنع الانحراف من خلال قيامها بوضع قواعد وقوانين يمثل الخروج عليها انحرافًا، وتطبيقها لتلك القوانين والقواعد على أشخاص معينين ووضعهم واعتبارهم هامسين”. فمن وجهة النظر هذه لا يمكن اعتبار الانحراف ركيزة للتصرف الذي يرتكبه الفرد، بل نتيجة لتطبيق القوانين والعقوبات على الخارجين عن تلك القواعد من قبل الآخرين([37]).

ومن الأمور التي تسير عليها الكثير من الأجهزة الأمنيّة في كثير من بلدان العالم عمليّة المتابعة الأمنيّة لمن تم الإفراج عنهم، بعد الإدانة والحكم وقضاء مدة العقوبة، ولعل من الأخطاء التي تقع فيها مثل هذه الأجهزة، القيام بتنفيذ مثل هذه الإجراءات بصورة علنيّة، دون اعتبار لمشاعر المفرج عنهم ودون اعتبار؛ لأن الاتجاه لمثل هذا الأسلوب العلني قد يدفع بالكثير من أفراد المُجتمع إلى ممارسة أنماط سلوكيّة غير إنسانيّة تجاه هؤلاء التائبين، الأمر الذي قد ينعكس بالسلبيّة النفسيّة والاجتماعيّة على كثير من المفرج عنهم بسبب ما يتعرضون له من مواقف اجتماعيّة غير متوازنة وغير طبيعيّة متمثلة في عمليّات الصدّ والرفض الاجتماعي والخوف من التعامل مع هؤلاء الموصومين بوصمة جنائيّة ([38]).

وتمثل ردود الفعل المجتمعيّة السلبيّة  نتيجة الوصم الجنائي تَعني أن كل من ارتكب جريمة ما ينظر إليه القانون والمجتمع على اعتبار أنه سيقوم بنفس السلوك مرة أخرى، أو أن هناك عدم ثقة من جانب الجهاز الأمني حيال هذا الفرد([39]).

وفي كل مكان في العالم يتجه رجال الشرطة إلى التحقيق مع من سبق لهم ارتكاب ما يُماثل الجرم الذي يقوم المحققون بالتحقيق فيه، ولم يجدوا دليلًا ملموسًا عمن قام به، وعليه فإن المتابعة الأمنيّة لكل من قام بارتكاب جرم من قبل تمثل الدليل الأكيد على أن الأجهزة الأمنيّة افترضت فكرة أن هذا الإنسان لم ولن يرضخ لقوانين المجتمع، وأن العمل الإجرامي يمثل سلوكًا معيشيًا وحياة قائمة بالنسبة له([40]).

كل هذه السُّلوكيات من جانب الأجهزة الأمنيّة تجاه هؤلاء المفرج عنهم يمكن أن تدفع بهم إلى أن يعيشوا فترة من أصعب فترات حياتهم، حيث إنّهم لا يتمكنون من إقامة علاقات اجتماعيّة مع الأفراد الأسوياء في التنظيمات الاجتماعيّة السويّة، إلى جانب ما تُؤديه ردود الفعل من إقامة حاجز اجتماعي دائم ومستمر بين الموصوم وبقيّة جماعات المجتمع.

ويمكن القول بأن طريقة المتابعة من قبل أجهزة الأمن في معظم دول العالم، وما يرتبط بها من سلوكيات غير إيجابيّة مع المفرج عنهم تمثل جوانب سلبيّة في كثير من القوانين الجنائيّة، حيث إنها لا تضع في اعتبارها الآثار الاجتماعيّة والنفسيّة والاقتصاديّة السيئة التي من الممكن أن تنجم عن مثل هذا الأسلوب غير المنطقي في عمليّة المتابعة، ولعل أساليب المتابعة تتباين من الأساليب غير القانونيّة، لمحاولة استنطاق هؤلاء المفرج عنهم ومنعهم من التحايل أو الهرب من القانون، إلى الأساليب القانونيّة الصارمة مع أي مجرم سابق أقلع عن العمل الإجرامي([41]).

ولو تمعنا في الأساليب التي يمكن أن تتبعها الأجهزة الأمنيّة في عمليّة سؤال واستجواب المفرج عنهم بعد خروجهم من السجن بعد الإدانة، وفي حالة وقوع أنماط إجراميّة شبيهة بتلك الأنماط التي مارسوها من قبل من أعمالهم الإجراميّة، سنجد أنها غالبا أساليب صارمة قاسيّة مرتبطة بطرق مشروعة وغير مشروعة، لمحاولة استجواب مثل هؤلاء الأفراد، وذلك بغيّة التوصل إلى الهدف والنتيجة، وقد تكون هذه الأساليب مباشرة من خلال عمليّة الاستدعاء المباشر، وفي أي وقت من الليل أو النهار ومن دون اعتبار لظروف المفرج عنهم، أو من سبق له ارتكاب جرم ودون اعتبار لطبيعة ظروفه الاجتماعيّة التي بدأ يعيش من خلالها بعد الإفراج، والتي قد تتطلب في كثير من الأمور السريّة الكاملة وعدم الإفصاح عن حياته السابقة وعدم الرغبة في فتح صفحات ماضيه القديم، مما يجعله غير متوازن اجتماعيًا ونفسيًا وغير قادر على الاستقرار الاجتماعي الكامل، وغير مقتنع بمثل هذا السلوك الأمني غير الموفق، وقد يكون أسلوب الاستجواب من خلال أساليب أكثر لباقة في عدم جرح كبرياء المفرج عنهم، بعيدة كل البعد عن علاقاتهم وحياتهم الشخصيّة تلافيًا لمواقف اجتماعيّة قد يتعرض لها المفرج عنه أمام مجتمع الأسوياء([42]).

 الدراسات السابقة عن الوصمة الجنائيّة :

الدراسة الأولى: دراسة عن عوامل العودة للجريمة في سجون منطقة الرياض بالمملكة العربيّة السعوديّة

دراسة ميدانيّة تمَّ تطبيقها على 200 من المسجونين في سجون الرياض لمعرفة الأسباب التي تُؤدِي للعودة للجريمة مرة أخرى، وقد تمَّ استخدام منهج المسح الاجتماعي في هذه الدراسة إلى جانب تطبيق استبيان لمعرفة حجم ظاهرة العودة في سجون منطقة الرياض، وبتحديد العوامل التي تدفع الشخص للعودة للجريمة وتحديد مدى خطورة العودة على أمن المُجتمع واستقراره وتنميته.

ولقد أثبتت الدراسة أن معظم معتادي الإجرام هم من الشباب، وأن لهم سابقتين فأقل، وأن العود يقلُّ مع التقدم في العمر، ولقد اتضح أن كثيرًا من العائدين للجريمة كانوا يُقَابلون بمعاملة سيئة من أسرهم بعد ارتكاب جريمتهم الأولى، وأن إحساسهم بالعُزلة الأسريّة، وبتفضيل أسرهم لإخوانهم عليهم لما له أثر في معاودتهم للعمل الإجرامي مرة أخرى.

وأوضحت الدراسة أن غالبيّة آباء العائدين من ذوي الأوضاع الاقتصاديّة المحدودة أو المتوسطة مما يعكس دور العامل الاقتصادي في عمليّة العود مرة أخرى للجريمة، ولقد أثبتت الدراسة الكثير من أفراد العينة كانوا يعيشون داخل السجون منفصلين نهائيًا عن مجتمعهم الخارجي الذي كان يرفضهم، ويتمثل هذا الرفض في عدم قيام أسرهم أو أقربائهم لزيارتهم بالسجن، وكذلك أثبتت الدراسة أن معاملة غالبيّة أسر العائدين لهم بعد أن أُفرج عنهم في المرات السابقة كانت سيئة للغايّة، ولقد أوضحت الدراسة أن غالبيّة أفراد العينة على أن السجناء لأول مرة يتعلمون من السجناء أصحاب السوابق أساليبًا وأفكارًا جديدةً عن الجريمة بسبب الاختلاط داخل السجن؛ مما يوحي بوجود ارتباط بين العود ومخالطة السجناء لأول مرة لأصحاب السوابق، وأن كثيرًا من العائدين قاموا بتكوين علاقات اجتماعيّة مع هؤلاء للمجرمين، وأن هذه العلاقات استمرت بعد خروجهم من السجن نتيجة لرفض المُجتمع لهم وإحساسهم بالغربة مع المُجتمع السوي، الأمر الذي دفعهم إلى البحث عن أصدقاء السجن من ذوي السوابق، ولقد عبر عن ذلك كثير من أفراد العينة، حيث أوضحوا أن من ضمن أسباب معاودتهم للسلوك الإجرامي إحساسهم بالعزلة الاجتماعيّة وعدم توفر الروابط الاجتماعيّة، وأن غالبيّة أفراد المُجتمع كانوا يرفضون فكرة التعامل معهم، كما أنهم كانوا يميلون إلى الاستهزاء والاحتقار بهم، وأن معظم أفراد المُجتمع كان يظهر عليهم.

الدراسة الثانيّة :الدراسة التي قام بها “روبرت فشمان” Fishman، R. في منطقة نيويورك بالولايات المتحدة الأمريكيّة عام 1977

كان هدف هذه الدراسة معرفة أثر الخدمات والبرامج الإصلاحيّة كمتغيرات مستقلة على الحد من جرائم العودة، وكان عدد تلك البرامج 18 برنامجًا تعليميًا وتأهيليّا، بالإضافة إلى برامج مساعدة الشخص للحصول على عمل يُناسب إمكانياته وقدراته، وكذلك بعض الخدمات الإشرافيّة والتوصيّة والمراقبة، وغطت هذه الدراسة 2860 من الرجال والأحداث، وكانت نتائجها بصفة عامة فشل البرامج الإصلاحيّة كمنهج للوقاية من العودة ومكافحة الإجرام، وخاصة جرائم العنف رغم اشتمالها على التدريب والتأهيل والتعليم والعلاج النفسي والاجتماعي، وأشار الباحث إلى أن جرائم العودة ذات تكاليف باهظة، وإن الفقر وكراهية المُجتمع والرفض الاجتماعي المتمثل في عدم احتواء هؤلاء المجرمين أو استيعابهم داخل إطار المُجتمع التقليدي يُعتبر من العوامل الأساسيّة والهامة في عودتهم مرة أخرى إلى داخل الجريمة والإجرام.

وأن من أسباب جرائم العنف في أن هؤلاء المجرمين يتعرضون إلى العديد من المواقف السيئة وللمؤلمة بعد خروجهم من السجون، وتتمثل هذه المواقف في كراهية المُجتمع لهم ومحاولة سحقهم اجتماعيًا، والنبذ الجماعي لهم، مما يشعرهم بالكراهية الكاملة للمجتمع وأفراده، الأمر الذي يَدفعهم إلى التّعامل مع هذا المُجتمع بالعنف الواضح في ارتكاب معظم الجرائم.

ولقد أوضح “روبرت فشمان” في دراسته أن مُعظم البرامج الإصلاحيّة، لا تُؤدِي دورها الايجابي وخاصة بعد خروج المجرم من السجون إلى الواقع الاجتماعي واصطدامه بكثير من المعوقات الاجتماعيّة التي تَعوق قيامه ومعاودته لدوره الحقيقي السوي في المُجتمع؛ مما يدفعه إلى إهمال وبُغض أي أثر ايجابي لهذه البرامج الإصلاحيّة، ومن ثم الاقتناع بكل رأي مخالف لهما والرجوع إلى دائرة العمل الإجرامي بِكلِّ ما لديه من كراهية للمجتمع وأفراده.

ولقد أوضحت الدراسة أن معظم المجرمين كانوا يفكرون أثناء تواجدهم بالسجون في العمل والتوظيف والحياة الآمنة المستقرة بعد الإفراج إلا أن كل المواجهات التي تعرضوا لها بعد الإفراج مباشرة والمتمثلة في صعوبة التّكيف أو الحصول على عمل وعدم القدرة على الاندماج في المُجتمع بالصورة التي يأملونها كانت من الدوافع القويّة لانغماسهم مرة أخرى في العمل الإجرامي بكل صورة وخصوصًا جريمة العنف.

ولقد أوضحت الدراسة أن عزوف المُجتمع عن تشغيل المفرج عنه يؤدي إلى اليأس والإحباط والشعور بالدونيّة ([43]).

 

الدراسة الثالثة :- دراسة علاء سليمان التي اهتمت بأسباب العودة إلى الجريمة: (1997) عن “التفاعل الاجتماعي بين السجناء المفرج عنهم والمجتمع المحلى” دراسة ميدانيّة على نمط الوصم ونتائجه في منطقة مكة المكرمة: وكان هدفها الكشف عن العلاقة بين الوصمة وبين الصورة السيئة التي يقابل بها المُجتمع صاحب الوصمة، وأيضًا الكشف عن العلاقة بين الوصمة والآثار الاجتماعيّة لها داخل النطاق الأسري للموصوم، بجانب التعرف على الآثار الاجتماعيّة للوصمة ودورها في تشكيل وعي اجتماعي جديد للموصوم، واعتمدت الدراسة على المسح الاجتماعي باستخدام استبيان وأسلوب دراسة الحالة، وقد اشتملت عينة البحث على 200 مفردة من المسجونين الذين تمَّ الإفراج عنهم من سجون منطقة مكة المكرمة، وتُعَدُّ هذه الدراسة من الدراسات الوصفيّة التحليليّة التي استخدمت الأسلوبين الكمي والكيفي معًا.

وقد أسفرت تلك الدراسة عن العديد من النتائج، منها: وجود صلة بين الوصمة التي تلحق السجين بسبب الإيداع في السجن، والعديد من المشاكل التي تواجهه داخل السجن أو خارجه عقب الإفراج عنه، سواء بالنسبة له شخصيًا أو على المستوى الأسري، كما كشفت الدراسة عن أن الجماعات الاجتماعيّة والمتمثلة في القرابة والجيرة تقوم بدور ملموس في إظهار عامل الصد والرد الاجتماعي تجاه المفرج عنهم، حيث إنها تتخذ مواقف اجتماعيّة مختلفة متمثلة في صور ابتعاد وتجنب وقطع علاقات ونبذ اجتماعي، وكلُّ ذلك يُؤدي إلى تعرض هؤلاء المفرج عنهم لحالات من اليأس، وعدم التوازن الاجتماعي، والإحساس الدائم بعدم الاستقرار، والاغتراب عن الحياة السويّة، مما يدفع ببعضهم للهروب إلى جماعات إجراميّة، كذلك كشفت الدراسة عن أن الضغوط الاجتماعيّة التي يتعرض لها الموصومون، سواء في المواقف الأسرة السلبيّة منها والإيجابيّة، ومواقف المُجتمع المحلي الذي يعيشون فيه، ومنعهم من اكتساب رزقهم بالالتحاق بعمل ما، كل هذه المواقف تُشكل تصورات ذاتيّة لدى المفرج عنهم غير سويّة، وتُؤدي – في غالبيّة الأحوال – للعودة إلى الجريمة.

الدراسة الرابعة :- دراسة جونز وفندر(1990) Jons & Vandr: عن العوامل النفسيّة والاجتماعيّة التي تُؤدِي للعودة إلى السلوك الانحرافي، أجريت هذه الدراسة على عينة قوامها 90 منحرفًا عائدًا من المُفرج عنهم من سجون ولايّة نيوجيرسي بالولايات المتحدة الأمريكيّة، وقد استخدم الباحث في دراسته استبيانًا يحتوي على 70 متغيرًا مستقلًا يتضمن: محل الإقامة، والمكانة الاجتماعيّة، ونوع التهمة، ونوعيّة العمل، ومستوى التعليم، والأسباب الاجتماعيّة التي تُؤدِي إلى العودة مرة أخرى إلى الانحراف…إلخ.

وقد أسفرت هذه الدراسة عن العديد من النتائج منها:

– إن هناك عوامل نفسيّة واجتماعيّة قد تُؤدِي إلى عودة المجرم إلى الإجرام مرة أخرى، منها عدم حصول المفرج عنه بعد خروجه من السجن على أيّة مساعدات أسريّة، والوقوع في كثير من المُشكلات العائليّة مع أفراد أسرته إلى جانب أن هناك الكثير من العلاقات الاجتماعيّة المرتبطة بأصدقاء السوء التي يُمكن أن تكون عاملًا مُؤثرًا على المجرمين للعودة مرة أخرى إلى الجريمة، واستمرار حالة الخطورة الإجراميّة لديهم.

– اختلاط المحكوم عليهم داخل السجون بالمجرمين الخطرين ذوي السلوكيات الإجراميّة المختلفة، واستيعابهم للكثير من هذه السُّلوكيات التي تُؤثر على شخصياتهم وبنائهم النفسي بصورة تتضح في علاقاتهم الاجتماعيّة بعد خروجهم من السجن، مما يُؤدِي إلى تعطيل قدرتهم على التكيف مع المُجتمع السوي بعد خروجهم من المؤسسات الإصلاحيّة، ومن ثم يقومون بأفعال لا تُرضِي المُجتمع السوي وأفراده، وتصبح عودتهم مرة أخرى للمؤسسات الإصلاحيّة أمرًا واردًا ومُؤكدًا.

– سلب الحريّة يُؤدِي إلى آثار نفسيّة للمسجون منها: الشُّعور بالميل للعزلة الاجتماعيّة، والشعور بعدم التّكيف مع الواقع الاجتماعي السوي نتيجة الإحساس بالنظرة الدونيّة التي تعيش داخل نفسه، وتظهر بصورة عميقة من خلال تعامل أفراد المُجتمع معه عقب الإفراج عنه.

– كشفت الدراسة عن أن غالبيّة المفرج عنهم من المسجونين يتسمون بالحساسيّة المفرطة والتوترات النفسيّة وسوء العلاقة بكل من يعرفونهم، وعلى وجه الخصوص بزوجاتهم وأبنائهم وجيرانهم ونتيجة لعدم قدرتهم على حل هذه المشكلات، فإنهم لا يكونون متوازنين نفسيًا أو اجتماعيًا، ومن ثم فإن احتمالات عودتهم مرة أخرى إلى الجريمة تكون مؤكدة، الأمر الذي يُمكن أن تكون له آثارًا اجتماعيّة ونفسيّة سيئة على النسق الأسري لهم بكل عناصره، وإظهاره في صورة سلوكيّة غير سويّة.

 

     الدراسة الخامسة:- دراسة ستيفنز Stevens وآخرون (1992) عن “عوامل العود إلى الجريمة“: كان الهدف من الدراسة هو التعرف على الظروف البيئيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة والصحيّة التي تُؤدِي – في بعض الأحيان – لعودة من يفرج عنهم من السجون – بعد قضاء مدة العقوبة- إلى ارتكاب جرائم مرة أخرى، سواء من يرتكبون نفس الجرائم التي سبق أن أدخلتهم السجن أم جرائم مختلفة. كما تهدف الدراسة إلى تقييم البرامج الإصلاحيّة وبرامج المراقبة الاجتماعيّة الأمنيّة التي طُبقت على أفراد العينة (المجرمين الخطرين)، سواء أثناء وجودهم داخل السجن أو بعد خروجهم منه، وتعد هذه الدراسة من الدراسات الوصفيّة التحليليّة، وقد استخدم الباحث فيها العديد من الأدوات منها: استمارة استبان، ودليل مقابلة مقنن، استخدام أسلوب دراسة الحالة على عينة محدودة من المجرمين الخطرين، حيث أُجريت هذه الدراسة على عينة قوامها 350 من المجرمين الخطرين المفرج عنهم من أحد سجون شمال كارولينا بالولايات المتحدة الأمريكيّة من الذين سبق ارتكابهم لعدة جرائم متنوعة، وطُبقت عليهم عدة برامج إصلاحيّة مجتمعيّة أثناء قضاء مدد عقوبتهم داخل السجن، أهمها: برامج التدريب المهني والتأهيل المهني، والتأهيل الاجتماعي والتشغيل وتوفير مجموعة متكاملة من الخدمات الاجتماعيّة والنفسيّة والطبيّة لهم ولأفراد أسرهم. كما خضعوا لبرنامج دقيق للمراقبة الاجتماعيّة الأمنيّة لمدة سبعة وعشرين شهرًا بعد خروجهم من السجن.وقد أسفرت هذه الدراسة عن عدة نتائج أهمها:

– أهميّة الرعايّة اللاحقة للمجرمين الخطرين، حيث أشارت إلى أهميّة توفير برامج رعايّة متكاملة للمجرمين الخطرين أثناء وجودهم بالسجون لقضاء فترة العقوبة، تتضمن: خدمات صحيّة واجتماعيّة ونفسيّة وقانونيّة، وبرامج تدريب مهني، وتأهيل مهني، وتشغيل، ليس فقط للسجين، ولكن أيضًا لأسرته خارج السجون، وتهيئة السجين لعودته إلى أسرته وإلي المُجتمع بعد انقضاء فترة العقوبة وقُرب الإفراج عنه، كذلك تهيئة المُجتمع الذي كان يعيش فيه وأسرته لكي يتقبله، ويتيح له الفرصة لحياة سويّة كريمة بعد خروجه من السجن.

– ضرورة توفير برامج اجتماعيّة أمنيّة دقيقة للمجرمين الخطرين عقب انقضاء فترة العقوبة والإفراج عنهم من السجون، تتضمن متابعة يقظة وجادة لحياة المجرم الخطر وتصرفاته بعد عودته إلى أسرته وإلي المُجتمع ومساعدته على التكيف والحياة السويّة الكريمة، وبحيث يصبح من جديد مواطنًا نافعًا ومنتجًا.

– ينبغي أن تختلف مدة المراقبة الاجتماعيّة الأمنيّة من حالة إلى أخرى بحسب درجة خطورة كل حالة، كما يجب ألا تنتهي المراقبة فجأة، ولكن يجب التّدرج في إنهاء المراقبة بحسب تحسن وتقدم حالة الشخص الخطر، ومدى الاستفادة من جهود المراقبة الاجتماعيّة الأمنيّة.

– ينبغي أن تكون المراقبة الأمنيّة مُنظمة، بحيث تتم وفق خطة وبرنامج تنفيذي محدد بدقة، ويوضح أدوار القائمين به، وتقديم تقارير دوريّة دقيقة وجادة وواقعيّة عن تطور حياة المجرم الخطر المُفرج عنه ومدى استفادته من الخدمات التي أُتيحت له داخل السجن، والجهود التي تُبذل معه عقب الإفراج عنه.

 

       الدراسة السادسة :- دراسة هاريس ورايس Harris & Rice (1992) عن “العوامل المهيئة للعود للانحراف“: تهدف هذه الدراسة إلى التعرف على العوامل والظروف المُهيئة لعودة بعض المجرمين مرة أخرى لارتكاب أنواع من السلوك المنحرف الذي جرمه القانون، وقد أجرى الباحثان دراسة مقارنة على عينة من المجرمين الخطرين العائدين قوامها 280 شخصًا من السجناء الذكور المودعين بأحد السجون في كندا، وذلك في الفترة من عام 1975 وحتى عام 1981، وقد أوضحت الدراسة عدة نتائج مهمة، من أبرزها ما يلي:

– إن هناك علاقة بين السن والمرحلة العمريّة للمجرم وعودته إلى طريق الانحراف مرة أخرى.

– إن هناك علاقة بين الظروف الأسريّة للمجرم وعودته للجريمة مرة أخرى.

– ترتبط الحالة الزوجيّة والاجتماعيّة بالسلوك الانحرافي وارتكاب الجريمة.

– الجماعات المرجعيّة التي عاش وتربي من خلالها المجرم ووسط أعضائها تُسهم – إلى حد كبير – في تكوين شخصيته وأسلوب وطريقة تفكيره، وكذلك نمط سلوكه وعلاقة ذلك بانحرافه، وكذلك علاقة ذلك بعودته إلى الانحراف والجريمة واستمرار حالة الخطورة الإجراميّة لديه.

– الارتباط العضوي القائم بين إدمان المخدرات (بأنواعها المختلفة) وشرب الكحوليات والخمور، وغير ذلك من أنواع الإدمان، وبين الانحراف وارتكاب الجرائم أول مرة، والعودة مرة أخرى إلى ارتكاب الجريمة أو السلوك الذي يجرمه القانون.

– ضرورة معرفة التاريخ الجنائي للمجرم مُنذ بداية انحرافه، والظروف التي أدّت إلى ذلك، وتطور تاريخه الإجرامي بالتفصيل، وعلاقة كل ذلك بالانحراف وأسباب عودته لارتكاب أفعال يُعاقب عليها القانون.

– أوضحت الدراسة أن هؤلاء السجناء الذين يكون سلوكهم غير اجتماعي، ويثيرون المُشكلات السلوكيّة خلال فترة قضاء العقوبة داخل السجن، يكون الاحتمال كبيرًا بالنسبة لعودتهم لارتكاب الجريمة بعد خروجهم من السجن وعودتهم مرة أخرى.

      الدراسة السابعة :- دراسة هيوز Haughes (1995) عن “عوامل العودة للجريمة“: تهدف هذه الدراسة إلى الوقوف على علاقة وصمة السجن بالعودة مرة أخرى إلى الانحراف والجريمة، وقد أُجريت هذه الدراسة على 1500 مسجون من المجرمين العائدين والمودعين بالمؤسسات العقابيّة الإصلاحيّة في 11 ولايّة بأمريكا، وقد استخدم الباحث منهج المسح الاجتماعي في هذه الدراسة إلى جانب تطبيق استبيان يحتوي على 120 متغيرًا ، وذلك بهدف الوقوف على حجم المشكلة، وتحديد العوامل التي تدفع الشخص للعودة مرة أخرى إلى الجريمة، وأثر وصمة الإيداع بالسجن على العودة إليه مرة أخرى.

وقد انتهت هذه الدراسة إلى النتائج التاليّة:

– غالبيّة المجرمين العائدين كانوا يُعاملون معاملة سيئة من أسرهم بعد ارتكاب جريمتهم الأولى، وأن إحساسهم بالعُزلة الأسريّة وتفضيل آبائهم لإخوتهم عليهم كان له أثر في معاودتهم للعمل الإجرامي.

– غالبيّة أفراد العينة كانوا يعيشون داخل السجن منفصلين نهائيًا عن مجتمعهم الخارجي الذي كان يرفضهم، ويتمثل هذا الرفض في عدم قيام أفراد أسرهم أو أقاربهم أو أصدقائهم بزيارتهم أو الاتصال بهم أثناء وجودهم داخل السجن.

– أوضحت الدراسة أن معاملة أسر المسجونين لهم بعد الإفراج عنهم من السجون في المرة الأولى كانت سيئة للغايّة، وكذلك معاملة المُجتمع المحلي من أقارب وجيران وأصدقاء.

ـ غالبيّة المسجونين من أفراد العينة اعترفوا بأنهم تعلموا من السجناء أصحاب السوابق داخل السجن أساليبًا وأفكارًا جديدة عن الإجرام، وذلك بسبب الاختلاط داخل السجن، مما يُؤكد على وجود ارتباط بين مخالطة السجناء المودعين لأول مرة بأصحاب السوابق وعودتهم إلى الجريمة والانحراف، حيث إن كثيرًا منهم أقروا بأن علاقتهم مع هؤلاء المجرمين استمرت بعد خروجهم من السجن نتيجة لرفض المُجتمع لهم وإحساسهم بالغربة في المُجتمع السوي، الأمر الذي دفعهم إلى البحث عن أصدقاء السجن ذوي السوابق، فجميع أفراد العينة أقروا بأن من أهم أسباب عودتهم إلى الجريمة هو نظرة المُجتمع لهم، والوصمة التي كانت تُلاحقهم وأسرهم بسبب الإيداع في السجن لأول مرة.

العوامل المؤديّة لظاهرة العود

العوامل الفرديّة:

يجب ألا تفهم أهميّة التكوين الفردي على أساس أن العائدين يمثلون فئة “أنثروبولوجيّة” خاصة كما زعم بذلك “لومبروزو”، وحتى إذا سلمنا بوجود علامات مميزة في بعض أفراد المجموعة التي أجري عليها “لومبروزو” دراساته، فإنها لاتُعطي دلالة علميّة؛ لأنه يتعيّن القول بوجود فئة معينة الاتفاق أولًا على سمات الفئة السويّة، وهو أمر بالغ التعقيد، ومن الصعب التوصل إليه، نظرًا لاختلاف الظروف والمستويات المعيشيّة لأفراد المُجتمع الواحد، وفضلًا عن ذلك فإن وجود بعض السمات الخاصة في مجموعة “لومبروزو” لا يدل على أن العائدين يمثلون فئة خاصة، لأن جميع أفراد هذه المجموعة من طبقة اجتماعيّة معينة تكثر فيها هذه السمات سواء كان أفرادها من المجرمين أم لا.

وإذا كان “الإكلينيكيون” من رجال علم الإجرام لا يذهبون اليوم إلى أن العائدين يكونون فئة خاصة، إلا أنهم يتفقون على أن شخصياتهم تعكس شذوذًا واضطرابًا يَحولُ دون قدرتهم على إيجاد علاقات فعالة ومستمرة مع الآخرين، وهذا الاضطراب الناتج من التربيّة المعيبة وانعدام الحب وتخلف الأمثلة الاجتماعيّة السليمة يُولّد لديهم شعور عام بعدم الرضا والظلم والثورة على الغير وعدم الإحساس بأهميّة العلاقات المشتركة، الأمر الذي يُؤدي إلى وجود نوع من العزلة الاجتماعيّة، وهذه العزلة ليست نتيجة إرادة واعيّة بالشر، ولكن نتيجة نظرة عدائيّة للعالم كله.

 العوامل الاجتماعيّة:

لاشك أن المواقف الاجتماعيّة التي تُساهم في خلق السلوك الإجرامي، تُساهم أيضًا في نُشوء ظاهرة العود، فمن المشاهد أن الأشخاص الذين ينشئون في مناطق تنخفض نسبة الإجرام فيها أو ينحدرون من أسر لا تسود فيها الجريمة أو يعيشون في مستوى طيب، من السهل عليهم ألا يعودوا مرة أخرى للجريمة، حتى دون أن يلقوا أيّة معاملة عقابيّة سليمة، مثلهم في ذلك مثل من يُصابون بأمراض خفيفة، ويشفون أنفسهم بأنفسهم، وعلى العكس من ذلك فإن العائدين كثيرًا ما ينشئون في أسر مُتصدعة، وفي مناطق تَكثُر فيها الجريمة وتشيع فيها الرذيلة، ولذلك فإنَّ نسبة عود الزنوج أكثر ارتفاعًا من نسبة عود البيض، وكذلك نسبة عود الأولاد أكثر ارتفاعًا من عود البنات، والمقيمون في المناطق الحضريّة نسبة عودهم أكبر من نسبة عود المقيمين في المناطق الريفيّة.

ويربط كثيرون بين العود وبين إجرام الأحداث، فالحدث الذي يسقط في جريمة في سن مبكرة ثم يتكرر سقوطه قبل البلوغ، غالبًا يستمر في سلوكه الإجرامي بعد ذلك، على أن الحدث إذا لقي معاملة ورعايّة بعد ارتكاب جريمته الأولي فإنه لا يعود للجريمة، فقد تبيّن من بحث Frey أن 80% من الأحداث الذين عُوملوا معاملة سليمة بعد الجريمة الأولي لم يعودوا للإجرام.

وفضلًا عما تُؤديه عقوبة السجن من انسلاخ السجين عن المُجتمع ماديًا ومعنويًا، فإنها تُعطيه فرصًا كبيرة للاتصال بغيره من المسجونين الخطرين، حيث تلعب القدوة السيئة دورها في تمجيد الجريمة والمُباهاة بها، بل إنها تفتح عينيّه على ضروب من صنوف الإجرام أكثر خطرًا وأشد جرأة، وقد تبّين من الإحصائيات أن الحكم بإيقاف تنفيذ العقوبات القصيرة المدة كان له أثره الكبير في تخفيض نسبة العود.

على أن من أهم العوامل الاجتماعيّة للعود في رأينا قصور الإمكانيات التي تُبذل للجاني بعد الإفراج عنه، إذ هو غالبًا يترك بمفرده يواجه قوى الشر التي تتحالف لجذبه في صفها، فالرفقة السيئة، والقدوة الفاسدة، والعزلة عن الجماعات الخيرة، وسد سبل العيش الشريف أمامه نتيجة لعزوف المُجتمع عنه، وخوفه منه كل ذلك يدفعه مرة ثانيّة للتردي في الجريمة، إن أخطر فترة تُواجه المفرج عنه هي الشهور التاليّة مباشرة للإفراج، ففيها يتحدد مصيره، ولا شك أن في هذه الفترة بالذات يكون لديه استعداد طيب لتقبل المساعدة والتوجيه؛ لأن تجربة السجن لا تزال ماثلة في مخليته، غير أن صحيفة سوابقه كثيرًا ما تقف حجر عثرة في سبيل إلحاقه بعمل يتكسب منه، مما يضطره للجوء لقرناء السوء الذين يُزينون له متابعة السلوك الإجرامي، باعتباره الوسيلة الوحيدة أمامه لكسب عيشه ولإثبات ذاته أمام المُجتمع الذي غفل عن أن يمدَّ إليه يد الرعاية.

ومهما كانت أهميّة العوامل الاجتماعيّة، فالرأي عندنا أنها لا يمكنها أن تدفع الشخص للسقوط في الجريمة إلا إذا كان لديه استعداد شخصي للخضوع لها، فالعوامل الفرديّة والعوامل الاجتماعيّة تتضافر جميعًا في نُشوء ظاهرة العود، الأمر الذي يتعيّن معه النظر للعود باعتباره حالة خاصة بشخص الجاني تستدعي معرفة أسبابها واتخاذ الإجراء المناسب الذي يمكن من مواجهتها.[44]

 دراسة ميدانيّة بمحافظة الغربيّة:

      ومن خلال دراسة  في محافظة الغربيّة، بينما تمثل المؤسسات العقابيّة (السجون) تَمَّ اختيار عينة بحث عشوائيّة طبقيّة، وتَمَّ تقسيم المؤسسات العقابيّة بمحافظة الغريبة إلى درجات أو فئات حسب نوع الجريمة التي قاموا بارتكابها وأودعوا بسببها في السجن.

توزعت العينة على النحو التالي :

بعض الملامح العامة لمجتمع البحث :

أ. فئات الأعمار :

توزع أفراد العينة على ست فئات عمريّة، حظيت الأولى وهي أقل من عشرين عامًا بنسبة (4% )، أما الفئة الثانيّة (-20 ) فقط حظيت بنسبة (22% )، والفئة الثالثة (-30 ) فكانت نسبتها 30 %، أما الفئة الرابعة (-40) فشكلت (26% )، بينما الفئة الخامسة (-5%) فقد بلغت نسبتها (16% )، وأما الفئة الأخيرة (60 فأكثر ) فقد مثلت (2 (%.

يتضح من توزيع فئات العمر أن أعلى نسبة بين المُفرج عنهم، هي هؤلاء الذين تنحصر أعمارهم في مجموعة السن من (30 – أقل من خمسين سنة)، وهذه المرحلة السنيّة تتسم بالنضج والقدرة على التفكير السليم وتحمل المسئوليّة. وبالتالي فإن عدم استطاعة هؤلاء المُفرج عنهم أن يتكيّفوا مع المُجتمع ويندمجوا فيه يَعني أن المُجتمع قد خسر طاقاتهم، ولم يستغل إمكانياتهم في خطط وبرامج التنميّة التي ينشدها.

ب. الحالة التعليميّة :

لقد كشفت مُعطيات الدراسة عن أن أكبر الفئات حجمًا بين العينة هي فئة الأميين، حيث بلغت (50% )، تليها فئة الذين يقرؤون ويكتبون حيث شكلت (20%)، أما المؤهلات المتوسطة شكلت (8%)، وفوق متوسطة (4%)، والمؤهل العالي أو الجامعي (2%).

يتضح مما سبق أن العينة قد تميّزت بأن فئة الأميين هي أكثر الفئات حجمًا،  حيث شكلت نصف العينة بالضبط. ولا شك أن التعليم له أثره في السلوك الإجرامي، فمن شأنه أن يُبعد الإنسان عن طريق الجريمة. ومن ثم تشير الأبحاث الكريمونولوجيّة *26 إلى انكماش معدلات الجريمة كلما ارتفعت درجة التعليم لدى المجتمع.

ج. الحالة الزوجيّة ومعدلات الإنجاب :

توزعت الحالة الزوجيّة على أربع فئات هي: لم يتزوج، متزوج، مطلق، أرمل. وكانت معدلات فئة الذين لم يتزوجوا (18%) وذلك من إجمالي العينة، أما فئة المتزوج فقد مثلت (52%) وحظيت فئة المطلق بنسبة (20%)، وأخيرًا مثلت نسبة الأرامل (10%).

وفي الوقت ذاته، فقد كشفت معطيات الدراسة عن أن المفرج عنهم والمتزوجين والمطلقين والأرامل الذين ليس لديهم أبناء يمثلون (8.5 %) منهم، وأن من لديهم ابن واحد فقط يشكلون (22.7%) ممن لديهم أبناء، وأن من لديهم اثنين من الأبناء (36%)، ويأتون في المقدمة، يليهم الذين لديهم ثلاثة أبناء ونسبتهم (28%)، في حين بلغت نسبة الذين لديهم أربعة أبناء (9.3 % )، وأخيرًا شكلت نسبة الذين لديهم خمسة فأكثر (4%)

تبيّن أن العينة قد اتسمت بأن المتزوجين والمطلقين والأرامل يُشكلون الغالبية منهم. وهذا يعني أن لدى غالبيّة المفرج عنهم في العينة مسؤوليات والتزامات أسريّة فهم إما يعولون زوجة أو أولاد أو وزوجة وأولاد.

د. الحالة المهنيّة :

تشير المعطيات الخاصة بالحالة المهنيّة أو العمليّة، أن جملة الذين لايعملون تمثل (56% ) من جملة العينة، أما الذين يعملون فقد شكلوا نسبة (38%) منها قد توزعت على:(25% ) يقومون بأعمال حرة قد لوحظ أن معظمها يتمثل في المهن التاليّة 🙁 بائع متجول، تباع، شيال، صبي قهوجي، عربجي، خادم )، و(6(% يعملون موظفين أو عمال بشركات أهليّة، و(4%) يقومون بأعمال حرفيّة، و(3(% يعملون مزارعين. بينما الطلاب فيمثلون (4%) وأخيرًا فقد شكل الذين بالمعاش (2%).

اتضح ارتفاع نسبة العاطلين عن العمل بين المُفرج عنهم في العينة والذين يعملون بمهن بسيطة أو تافهة لا تُدرّ دخلًا ذا شأن يسمح لهم مواجهة متطلبات الحياة وزيادة أعبائها المعيشيّة، وربما رجع ذلك للقوانين واللوائح*27 التي يقف في وجه تشغيل المفرج عنهم أو لعدم تلقيهم أي تأهيل مهني أثناء فترة إيداعهم في السجن يُتيح لهم امتهان حرفة مُعينة بعد الإفراج عنهم، أو لعدم حصولهم على مؤهل  دراسي مناسب يُتيح لهم الحصول على فرص عمل، هذا فضلًا عن تأثير مُعدلات البطالة على توفير فرص عمل للمفرج عنهم.

ويُلاحظ المتتبع للدراسات التي اهتمت بالجريمة، أن العديد منها قد اهتم بالربط بين النشاط الاقتصادي والجريمة، التي أكّدت معظمها على الآثار السلبيّة الناجمة عن فقدان الأفراد لأعمالهم وعدم حصولهم على أعمال تشبع حاجاتهم، لعل من بينها دراسة كل من بترسون ومارتيمر *28. عام 1994 التي أُجريت حول علاقة البطالة بالجريمة، وقد توصلا إلى أن العديد من الأفراد – بخاصة الشباب- يُصابون بحالة من اليأس والقلق على المستقبل، وذلك  لعدم حصولهم على عمل ولفترات طويلة، ينتج عنها نوع من الضغوط النفسيّة والاجتماعيّة تكون سببًا في لجوئهم إلى ارتكاب الجريمة واعتياد السلوك الإجرامي.

ه. الدخل :

ومن ناحيّة الدخول فقد كشفت معطيات الدراسة عن أن (44%) من أفراد العينة تتراوح دخولهم الأسريّة بين (100-أقل من 200 جنيه ) يليهم الذين تتراوح دخول أسرهم الشهريّة بين (200- 300 جنيه)، حيث بلغت نسبتهم (36%) ، ثم فئة الذين تقل دخول أسرهم الشهريّة عن (100 جنيه ) إذ شكلت نسبة هؤلاء (10 % ) أما الذين تتراوح دخول أسرهم الشهريّة بين ( 300- أقل من 400 )، فقد بلغت نسبتهم (6%)، وأخيرًا تكون  النسبة أقل ما تكون الذين تصل دخول أسرهم الشهريّة أكثر( 400جنيه)،  فقد بلغت نسبتهم (4 %) من مجموع المبحوثين.

وعن مصادر هذه الدخول، فقد كشفت معطيات الدراسة عن تشتت متسع في هذه الناحيّة، إذ جاء عمل المفرج عنه ليحتل المركز الأول بين مصادر الدخل، وذلك بنسبة (38%)، وتلاه في المركز الثاني عمل الزوجة بنسبة (34%). وتبقي بعد ذلك بقيّة النسب حسب أولويتها الإحصائيّة كالآتي: عمل الأب أو الأم بنسبة (10 %)، عمل الأبناء بنسبة (5% )، وقد جاء عمل الأخوة وكذلك المعاش ليحتلا المركز الأخير بين مصادر الدخل وذلك بنسبة (2%) لكل منهما.

اتضح محدوديّة الدخل في غالبيّة الأفراد المفرج عنهم في العينة وغالبيتهم من أصحاب المسئوليات والالتزامات الأسريّة. ولا شك أنه من منطلق الأهميّة التي تمثلها الحالة الاقتصاديّة للأسرة، فقد قام العديد من العلماء والباحثين بدراسات متعددة *29. لتوضيح أثر العامل الاقتصادي وعدم المساواة الاجتماعيّة في تشكيل العوامل الأساسيّة للانحراف والجريمة.

أوجد البحث عدة نتائج مهمة ومنها:

المواقف الاجتماعيّة التي تعرض لها المفرج عنهم في نطاق أسرهم :

أ. العلاقة بالزوجة :

لقد كشفت مُعطيات الدراسة عن حدوث تغيير في العلاقة التي تربط الزوجات بأزواجهن المفرج عنهم، تعددت صوره واتخذت عدة  أشكال هي: ازدراء الزوجة لزوجها المفرج عنه واحتقاره، وذلك بنسبة (26.4% )، يليه حدوث الطلاق وبلغت نسبته (23.6%)، ثم وجود فتور في العلاقة وشكلت نسبته (19.4%)، ثم هجر منزل الزوجة بنسبة (13.9%). في الوقت نفسه فقد تبيّن أن هناك (16.7 % ) من المتزوجين المفرج عنهم لم تشهد علاقاتهم بزوجاتهم أي تغير يذكر بسبب وصمة السجن.

أما الحالات التي حدث فيها طلاق، فقد تبيّن من مُعطيات الدراسة، أنه تم بعد إيداع الزوج السجن مباشرة وذلك بنسبة (41%) من هذه الحالات، وأثناء فترة إيداع الزوج السجن لدى( 35.3%)، في حين بلغت نسبة الحالات التي قامت بتطليق زوجاتهم بعد خروجهم من السجن (23.5%) من الحالات التي حدث فيها الطلاق.

وقد أبانت معطيات الدراسة أن المسئول عن حدوث الطلاق هي الزوجة وذلك في (70.6%) من الحالات التي حدث فيها طلاق، بينما تدخل أهل الزوجة للحصول على طلاق في خمس حالات فقط شكلت نسبتها في إجمالي الحالات التي حدث بها طلاق (29.4%)

ولقد أوضحت دراسة جرين بادن *30. عام 1982، أن قرار انفصال بعض الزوجات خلال قضاء الزوج لعقوبة السجن مرتبط بتأزم العلاقة بينهما قبل دخوله السجن، وبينت الدراسة أن قرار الزوجة بالبقاء في عصمة الرجل بعد دخوله السجن مرتبط بالنضج العقلي للزوجة والذي يجعلها متوازنة لهذا التغير المفاجيء الذي لم يكن بالحسبان،  والذي ألم بالمنزل بعد دخول الزوج السجن.

وفي المقابل فقد ذكر جميع المبحوثين الذين قاموا بتطليق زوجاتهم أنهم لم يحاولوا إرجاعهن مرة ثانيّة. وذلك لأسباب ترجع إلى تخليهم عنهم في محنتهم بنسبة (67.5%)، وجهلهم بمصيرهن وعدم معرفة أي شيء بنسبة (23.5 (%

يتضح مما سبق أن هناك ارتفاع في مُعدلات التغير في العلاقة بين الأزواج المفرج عنهم وزوجاتهم واتخاذها عدة صور وأشكال تراوحت بين الازدراء والاحتقار والطلاق والفتور وهجر منزل الزوجيّة، وذلك على الترتيب.

وهي جميعها تُبيّن ما يواجهه الأزواج المفرج عنهم من صور الرفض من قبل زوجاتهم، وأن تيار الوصم والرفض ينطلق تجاه المجرم بمجرد القبض عليه ودخوله قفص الاتهام بل ويلاحقه داخل إطار السجن إلى أن يقضي مدة عقوبته، وبعد أن يعود مرة أخرى إلى الحياة الاجتماعيّة السويّة حتى أقرب النَّاس إليه ألا وهي زوجته على حد قول البعض (شريكة حياته)، الأمر الذي يعضد فكرة الرفض الاجتماعي للموصوم، وعدم القبول الاجتماعي له بصورة كاملة.

ويدعم ذلك ما كشفت عنه المقابلات الجماعيّة التي أُجريت مع المبحوثين، فيشير بعض المبحوثين:( زوجاتنا رفضوا إنهم يعيشوا معانا وطلبوا الطلاق وفعلًا القضاة طلقوهم مننا واتحرمنا من أولادنا وفين وفين لما بنشوفهم وقالوا لينا :هنعيش ازاي مع رجاله حراميّة رد سجون معدش ليهم مستقبل. منكم لله ضيعتم نفسكم وضيعتونا وضيعتم عيالكم معاكم(

ويشير مبحوث آخر إلى ذلك بقوله:( زوجتي فضلت ثابته وصامدة حاولت تواجه الفضيحة ولكنها في النهاية انهارت وجالها السكر والضغط ودخلت المستشفي مرة واتنين وتلاته، بس أنا والله يا أستاذ لما بشوفها بحس بعقدة الذنب على ما جبته لها ولعيالي. وهي قليل ما بتتكلم معايا ولما أحاول أتكلم معاها وأخد وأدي تقولي كفايّة اللي عملته فينا خليت سيرتنا على كل لسان معدش ليا عين أبص في وش حد، والله لولا العيال ومستقبلهم لكنت طلبت الطلاق وخلصت منك  ومن وشك (

وقد كشفت الدراسة عن دلالة معنويّة بين نوع الجريمة وموقف الزوجة من المبحوث، وذلك باستخدام (كا تربيع) التي بلغت قيمتها (84.61 ( عند مستوى معنويّة (0.05) كما تبين وجود توافق قوي بين المتغيرين، إذ بلغت قيمة  معامل التوافق (0.74 ). وهذا يعني أن نوع الجريمة أو التهمة التي عُوقب المفرج عنهم من أجلها بالسجن يلعب دورًا هامًا في تحديد طبيعة التغيير التي تشهدها العلاقة التي تربط الزوجات بأزواجهن المفرج عنهم.

ب. العلاقة بالأبناء :

لقد كشفت معطيات الدراسة عن حدوث تغير في العلاقة التي تربط الأبناء بآبائهم المفرج عنهم، تعددت صوره واتخذت عدة أشكال هي: نفور وعدم اكتراث بنسبة (49.3%)، يليّه زيادة التعاطف بنسبة (12%)، ثم تكفل الأبناء بالإنفاق على آبائهم المفرج عنهم بنسبة (6.7%)، وفي الوقت نفسه تبين أن هناك (17.3% )أبناءهم لم يعلموا بواقعة الحبس لكونهم صغارًا ولا يدركون معنى الإيداع في السجن. في حين لم تشهد علاقة (14.7%) من الآباء المفرج عنهم أي تغير يذكر مع أبنائهم بسبب وصمة السجن.

وبسؤال الآباء المفرج عنهم الذين يُعانون من نفور أبنائهم منهم وعدم اكتراثهم بهم عن مدى تفكيرهم في الاستقلال بمعيشة منفردة عن أولادهم، فقد أجاب (76.6%) منهم بالإيجاب، بينما أجاب (32.4%) بالنفي، وفي هذا الصدد يقول بعض المبحوثين (ايه ذنب ولادنا ليه يعيشوا مع أبهات مجرمين، صدقنا ياأستاذ أحسن لولادنا البعد عنهم ونسبهم في حالهم علشان مستقبلهم، أحسن نكون في نظرهم ميتين مش مجرمين)

أما من ناحيّة مدى الضرر الذي تسبب فيه المبحوث لأولاده، فقد كشفت مُعطيات الدراسة عن أن (68% ) من الآباء المفرج عنهم قد تسببوا بالفعل في حدوث ضرر لأولادهم بسبب وصمة السجن التي ألصقت بهم، في حين أن هناك (32%) من هؤلاء الآباء لم يتسببوا في حدوث ضرر لأولادهم.

وقد كشفت مُعطيات الدراسة عن أشكال وصور هذا الضرر الذي تسبب فيه المبحوث لأولاده، وهي كثيرة ومتنوعة، يمكن ترتيبها في: تجنب الآخرين لهم بنسبة (74.1%)، ثم ترك أحد الأولاد الدراسة بسبب ازدراء زملائه له بنسبة (39.2%)، ثم هروب أحد الأولاد الدراسة بسبب ازدراء زملائه له بنسبة (27،4%)، ثم عدم قبول أحد الأولاد في الكليات العسكريّة والوظائف النيابيّة بنسبة (27.4%)، ثم عدم قبول أحد الأولاد في الكليات العسكريّة والوظائف النيابيّة بنسبة (23.5%)، ثم طلاق البنت بنسبة (19.6%)، ثم ارتكاب أحد الأولاد أو البنات جرائم أو انحرافات بنسبة (23.5% )، وأخيرًا الخوف من الزواج  بأحد الأولاد وذلك بنسبة (9.8%)

يتضح مما سبق أن العلاقة بين الأبناء والآباء المفرج عنهم قد شهدت في معظمها شكل نفور وعدم اكتراث، مما كان له الأثر الأكبر في دفع غالبيّة الآباء الذين يُعانون من ذلك إلى تفكيرهم في ترك أولادهم والاستقلاليّة بحياة ومعيشة بعيدًا عنهم. ولا شك أن ذلك من ناحية يُبيّن ما يُواجه الآباء المفرج عنهم من رفض من جانب أولادهم، كما أنه من ناحية أخرى يَعني أن المبحوث ( المفرج عنه 9 قد افتقد لمعنى الدور الاجتماعي الذي كان يقوم به كأب في محيط أسرته قبل دخوله السجن، الأمر الذي يمكن أن يكون عاملًا مؤثرًا في انحراف الأبناء. ويتضح مما سبق تأثيرات الوصم على الأبناء، وأن الوصم لا يقتصر على المجرم فحسب، وإنما يمتد ليطول كل فرد من أفراد أسرته يلوح بكل معاني الاستنكار والاستهزاء والسخريّة والرفض.

وهذا هو ما يتفق مع دراسة شيكرسانوبر *31. عام 1985 في أن من الآثار السيئة للوصمة أن الأبناء قد يكونون موضع سخريّة واستهزاء، وهو أمر قد يُثير الحقد والصراع في نفوسهم، وقد يكون المخرج منه الانحراف بسلوك عدواني.

ويدعم ذلك ما كشفت عنه مقابلات جماعيّة أُجريت مع المبحوثين فيشير بعض المبحوثين :(بناتنا محدش عايز يقرب منهم ونظراتهم لينا كلها احتقار، ولما بنحاول نقرب منهم بيقولوا لينا دمرتونا منكم لله حسبي الله ونعم الوكيل)

وَيُشير المبحوث آخر إلى ذلك بقوله: ( ولادي كان من الصعب نخبي الموضوع عليهم لأن بعض أولياء الأمور لما عرفوا الموضوع بتاع السجن ده نبهوا على ولادهم إنهم ميلعبوش مع ولادي، وطبعا دول أطفال يا سيدي زي ما انت عارف مايعرفوش يخبوا حاجة كانوا بيجوا من المدرسة تعبانين نفسيًا جدًا؛ لأن أصحابهم في المدرسة وكمان في العمارة بدءوا يتجنبوهم. ولما كنت أنا آجي أقعد معاهم وأكلمهم وأتقرب منهم ألاقي نفور منهم وعدم ارتياح، وده طبعًا بيخليني كاره نفسي وكاره عشتي وندمان على جريمتي بس أعمل ايه)

وقد كشفت الدراسة عن وجود دلالة معنويّة بين نوع الجريمة وعلاقة الأبناء بالمبحوث، وذلك باستخدام (كا2) التي بلغت قيمتها(69.5 ) عند مستوى معنويّة (0.05) كما تبيّن وجود توافق قوي بين المتغيرين، إذ بلغت قيمة  معامل التوافق(0.69 ). وهذا يعني أن نوع الجريمة أو التهمه التي عوقب المفرج عنهم من أجلها بالسجن يلعب دورًا هامًا في تحديد طبيعة التغيير التي تشهدها العلاقة التي تربط الأبناء بآبائهم المفرج عنهم.

ج. العلاقة بالوالدين :

لقد كشفت معطيات الدراسة عن حدوث تغير في العلاقة التي تربط الوالدين بالفرد المفرج عنه، تعددت صوره واتخذت عدة أشكال هي: ازدراء وتغير بسبب الحبس بنسبة (36.6%)، يليه فتور في العلاقة بنسبة (31.7%)، ثم تكفل الوالدين بالإنفاق على الفرد المفرج عنه وأسرته بنسبة (12.2%). في حين لم تشهد علاقة (19.5%) من الأفراد المفرج عنهم تغير يُذكر مع والديهم بسبب وصمة السجن.

يتضح مما سبق أن أشكال التّغير في العلاقة بين الأفراد المفرج عنهم ووالديهم كانت في معظمها متخذة شكل ازدراء وفتور. وهذا يَعني أن تأثيرات الوصم امتدت لتطول العلاقة بين الفرد ووالديه، بما يُؤكد رفض الآباء لفكرة التعضيد الاجتماعي لأبنائهم المفرج عنهم.

ويدعم ذلك ما كشفت عنه بيانات المقابلات الجماعيّة التي أُجريت مع المبحوثين، فيشير بعض المبحوثين:( بعد ما خرجنا من السجن واتعرفنا بأننا سوابق ورد سجون لاقينا الدنيا كلها ضدنا وكان اهالينا نفسهم يقتلونا علشان احنا اتسببنا ليهم في مضايقات كتيرة من الأقارب والجيران والمعارف. وكانوا بيقولوا للكل إنهم اتبروا مننا واحنا مش ولادهم. وقالوا لينا بصريح العبارة:منكم لله جبتولنا العار)

ويشير مبحوث آخر إلى ذلك بقوله:( أهلي اتبروا واستعروا مني، أبوي وأخوي طردوني من البيت علشان يتجوز اخوي في الغرفة اللي كنت أقيم فيها أنا وهو، وعلشان كده طلبت من قسم الشرطة إنه ينقل مراقبتي بالقسم بدل البيت. ولولا واحد قريبي وقعت في عرضه بيساعدني أول كل شهر لغايّة مالاقي عمل. بس بشرط على إني آخد المساعدة وماليش دعوة ببيته ولا مراته وولاده)

وقد كشفت الدراسة عن وجود دلالة معنويّة بين نوع الجريمة وعلاقة الوالدين بالمبحوث، وذلك باستخدام (كا تربيع) التي بلغت قيمتها (74.03 ) عند مستوى معنويّة (0.05) كما تبيّن وجود توافق قوي بين المتغيرين، إذ بلغت قيمة معامل التوافق (0.86 ). وهذا يعني أن نوع الجريمة أو التهمة التي عوقب المفرج عنهم من أجلها بالسجن يلعب دورًا هامًا في تحديد طبيعة التغيير التي تشهدها العلاقة التي تربط الوالدين بالمفرج عنه.

 د. العلاقة بالإخوة والأخوات :

لقد كشفت معطيات الدراسة عن حدوث تغير في العلاقة التي تربط الإخوة والأخوات بالفرد المفرج عنه، تعددت صوره واتخذت عدة أشكال هي : فتور العلاقة بنسبة (32%) وبنفس النسبة شهدت العلاقة التي تربط الإخوة والأخوات بالفرد المفرج عنه وأسرته بنسبة (2%). في حين لم تشهد علاقة (16%) من الأفراد المفرج عنهم أي تغير يذكر مع إخوتهم بسبب وصمة السجن.

يتضح مما سبق أن معظم أشكال التغير في العلاقة بين الأفراد المفرج عنهم وإخوانهم وأخواتهم قد تراوحت ما بين: الفتور، قطع الأوصال، والازدراء. وهذا يعني تعضيد فكرة الرفض من جانب الإخوة والأخوات لأخيهم المفرج عنه وعدم قبوله بالوصمة التي ألصقت به.

ويدعم ذلك ما كشفت عنه بيانات المُقابلات الجماعيّة التي أجريت مع المبحوثين، فيشير بعض المبحوثين:( أخواتنا البنات قاطعونا ورفضوا مجرد دخولنا بيوتهم أو حتى الاتصال بيهم وقالوا لينا: ابعدوا عنا علشان متضيعوش مستقبلنا وتخربوا علينا حياتنا)

ويشير مبحوث آخر إلى ذلك بقوله:( أختي الوحيدة ضاع مستقبلها، جوزها طلقها لأن طبعًا أخوها شقيقها بقي مسجل خطر، ولما خرجت من السجن وقابلتها كانت كل نظراتها ليا احتقار، ولما جيت أتقرب منها قالت: منك لله خربت بيتي وخيبت بختي (

وقد كشفت الدراسة عن وجود دلالة معنويّة بين نوع الجريمة وعلاقة الإخوة والأخوات بالمبحوث، وذلك باستخدام (كا2) التي بلغت قيمتها (90.38 ) عند مستوى معنويّة (0.05)، كما تبيّن وجود توافق قوي بين المتغيرين، إذ بلغت قيمة  معامل التوافق (0.69 ). وهذا يعني أن نوع الجريمة أو التهمة التي عُوقب المفرج عنهم من أجلها بالسجن يلعب دورًا هامًا في تحديد طبيعة التغيير التي تشهدها العلاقة التي تربط الإخوة والأخوات  بالمفرج عنه.

المواقف الاجتماعيّة التي تعرض لها المفرج عنهم في نطاق المُجتمع الخارجي :

العلاقة بالجيران :

لقد كشفت الدراسة عن حدوث تغير في العلاقة التي تربط الجيران والفرد المفرج عنه في المحيط السكني الذي يعيش فيه. وقد اتخذ هذا التغير عدة صور يأتي في مقدمتها ابتعادهم عنه بنسبة (64%)، ثم عدم اهتمامهم به بنسبة (16% )، وأخيرًا تعاطفهم معه بنسبة (4%). في حين لم تشهد العلاقة أي تغير يذكر بنسبة (16%) من جملة العينة.

يتضح مما سبق أن أشكال التغير في العلاقة بين الأفراد المفرج عنهم وجيرانهم قد اتخذت في معظمها شكلين هما: الابتعاد وعدم الاهتمام، وهذا يعني أن المفرج عنهم يواجهون نبذ اجتماعي من قبل أفراد الحي السكني الذي يعيشون فيه، ولعل ما يُؤكد ذلك ما ذكره بعض المبحوثين للباحث بقولهم:(الجيران بقي يا أخي بتخاف مجرد تقولنا صباح الخير ولا السلام عليكم، ما في حد منهم عايز يكلمنا الكل بيبعد عنا وكأننا وباء ولا مرض خبيث لاقدر الله هيصبهم)

ويقول أخرون:( مفيش يا أخي مناقشة بتحصل مع أي جار، إلا لما بتنتهي بمعايرتنا، وهم دايما بيعتذروا عن الزيارة لينا وبيتحججوا بأي حجة، وكمان بيرفضوا مشاركتنا في مناسباتهم الخاصة سواء كانت زواج أو خطوبة ولا حتى وفاة)

وقد كشفت الدراسة عن وجود دلالة معنويّة بين نوع الجريمة وعلاقة المبحوث بجيرانه، وذلك باستخدام (كا2) التي بلغت قيمتها (65.84) عند مستوى معنويّة (0.05)، كما تُبيّن وجود توافق قوي بين المتغيرين، إذ بلغت قيمة  معامل التوافق (0.63 (.وهذا يعني أن نوع الجريمة أو التهمة التي عُوقب المفرج عنهم من أجلها بالسجن يلعب دورًا هامًا في تحديد طبيعة التغيير التي تشهدها العلاقة بين المفرج عنه وجيرانه.

ب. العلاقة بالأصدقاء :

لقد كشفت معطيات الدراسة على أن غالبيّة الأفراد المفرج عنهم في العينة لم تستمر علاقتهم مع أصدقائهم القدامى بعد الإفراج، حيث بلغت نسبة هذه الفئة (70 (%، بينما تقل نسبة من استمرت علاقتهم مع أصدقائهم القدامى بعد الإفراج لتصل إلى (30%).

أما عن أسباب عدم استمرار علاقات الصداقة التي تربط بين الفرد المفرج عنه وأصدقائه القدامى، فقد كشفت معطيات الدراسة على أن أعلى نسبة تلك التي ذكر أصحابها أن تهمتهم هي السبب في ابتعاد أصدقائهم عنهم وقد بلغت (77.1%)، يلي ذلك من ذكروا أن طول مدة عقوباتهم وقضائهم فترة طويلة في السجن باعدت تمامًا بينهم وبين أصدقائهم القدامى بنسبة (48.6%)، وتأتي بعد ذلك من ذكروا أن كثرة المشاكل التي واجهتهم بعد الإفراج قد استغرقت كل أوقاتهم وتفكيرهم بحيث باعدت بينهم وبين أصدقائهم،  حيث بلغت (34.3%)، يليهم الذين ذكروا أن أصدقاءهم لم يسألوا عنهم أثناء المحنة التي مروا بها، وهي الإيداع في المؤسسة العقابية، وذلك بنسبة (31.4%)، ثم تأتي بعد ذلك نسبة من ذكروا أن أصدقاءهم كانوا سببًا فيما حدث لهم وأنهم وراء ما ارتكبوا من جرائم وتبلغ (22.8%)، أما أقل نسبة (20%) فهم أولئك الذين ذكروا أنهم مسئولون عن هذا لعجزهم عن مواجهة الناس.

 نتائج الدراسة

يتضح من كل ما سبق، ومن خلال دراسات الحالات التي قام بها الباحث أن المُفرج عنه يتعرض لحصار اجتماعي يكاد يكون أشد قسوة من حصار أسوار السجن، بل يدفعه إلى عزلة أشد من تلك التي عاشها داخل السجون، وكلُّ هذا يحمّل الباحث مسئوليّة العمل لإعادة تأهيل المفرج عنه نفسيًا ليكون قادرًا على مواجهة كل تلك الصعاب وبل وتأهيل المُجتمع المحيط بالسجين السابق كي يُساهم في عمليّة إدماجه بالحياة من جديد فليس من المنطقي ولا من الإنسانيّة في شيء بأن نُعاقب المُخطىء بأن نصنع منه مجرمًا ولا أن نُساعد الذي أجرم كي يحترف الإجرام.

كما اتضح للباحث أن الأجهزة الأمنيّة تقوم بدور أساسي وهام في إلصاق صفة الوصم للمفرج عنهم، من خلال أساليب المتابعة الأمنيّة؛ مما يضع هؤلاء المفرج عنهم في مواقف اجتماعيّة غير مُريحة وتجعلهم في حالة اغتراب عن المُجتمع، ومن ثم يلجأون إلى البحث عن حياه اجتماعيّة جديدة داخل أطر الحياة الإجراميّة التي تمثل لهم الملاذ المفقود في الحياة السويّة.

كما اتضح أن المُجتمع الأصغر المتمثل في الأسرة والجيران يقومون بدور أخر من رفضهم للمفرج عنهم من خلال التفاعل الاجتماعي اليومي، مما يجعلهم في حالة من عدم التوازن النفسي والاجتماعي والإحساس الدائم بعدم الاستقرار.

ومن نتائج الدراسة تبيّن رفض الكثير من أصحاب العمل للمفرج عنهم بعد معرفتهم لماضيهم السابق، أو الاستمرار تحت ضغط شديد.

توصيات الدراسة

بناءً على ما سبق وما أسفرت عنه النتائج خَلُصَ الباحث إلى عدة توصيات من الممكن أن تعمل على تغيير الوضع السلبي القائم بين المُجتمع والمفرج عنهم حتى يتمكنوا من الانخراط بالمجتمع ويصبحوا أفرادًا نافعين، ويمكن تقسيم هذه التوصيات إلى:

أولًا: توصيات بحثيّة

  • يُوصي الباحث بدراسة أثار الوصمة المجتمعيّة ونتائجها على مناطق أخرى للتأكد من النتائج التي تَوصل إليها الباحث.
  • لابد من دراسة أوضاع المُفرج عنهم القانونيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة مع ضرورة تقديم الدعم النفسي وذلك لإعادة دمجهم بالمجتمع.

 ثانيًا :توصيات خاصة بالمجتمع:

1- ضرورة الاهتمام بالتوعيّة الإعلاميّة لهذه المشكلة من خلال الصحف والمجلات والإذاعة والتليفزيون، حيث اتضح أن هذا الدور قد يكون معدومًا، مما يستدعي وجود خطة الإعلاميّة بالتنسيق مع الجهات المسئولة المتمثلة في وزارة الداخليّة والشئون الاجتماعيّة والتضامن الاجتماعي.

2- لابد من إبراز دور المؤسسات التعليميّة مثل المدارس والجامعات والتبصير بما يُعانيه فئة من فئات المُجتمع من العزل الاجتماعي الذي يعود بالضرر على المجتمع.

3- دور علماء الدين وأئمة المساجد في التأثير على التوجهات السلبيّة تجاه تلك الفئة.

4- إنشاء مؤسسات وهيئات أهليّة تُساهم في حل المُشكلات الناجمة عن فترة الاحتجاز، وذلك بتشغيل المفرج عنهم والعمل على إعادة دمجهم بالمجتمع وإعادة تأهيلهم.

5- إعادة النظر في القانون الخاص بأصحاب السابقة الأولى، وتجنب اختلاطهم مع الجماعات الإجراميّة الاحترافيّة، وتوزيع السجناء حسب جرائمهم ودرجة خطورتهم في عنابر مُخصصة لكل منهم.

ثالثًا:توصيات خاصة بالمفرج عنهم:

  • – ضرورة زيادة عدد الإخصائيين النفسسيين والاجتماعيين بما يتناسب مع أعداد السُّجناء من أجل توفير الدعم النفسي والاجتماعي.
  • – زيادة المحاضرات والندوات الدينيّة والتوعيّة بخطورة السلوكيات الإجراميّة.
  • – الاهتمام بالتدريب المهني داخل السجون بشكل إجباري على كل من لايجيد القراءة والكتابة.

الهوامش

(1)- أحمد عبدالعزيز القوصي (1965) العودة إلى الجريمة والاعتياد على الإجرام، المركز القومي للبحوث الاجتماعيّة والجنائيّة، جامعة القاهرة، القاهرة.

[2] – محمد محمد شفيق (2000)، علم النفس الاجتماعي، تطبيقات في ميدان الجريمة والاضطرابات السلوكيّة، جامعة الزقازيق، كليّة الآداب.

[3] – ساميّة جابر، (1990) الفكر الاجتماعي، الإسكندريّة ، دار المعرفة الجامعيّة، ص 187.

3- أحمد عبد العزيز سلامة ( 1988) علم الأمراض النفسيّة والعقليّة، الكويت، ص 470.

4-  علاء سليمان احمد‘ 1997، التفاعل الاجتماعي بين السجناء المفرج عنهم والمجتمع المحلي –دراسة ميدانيّة على نمط الوصم ونتائجه في منطقة مكة المكرمة، رسالة ماجستير غير منشورة، المكتبة المركزيّة –جامعة القاهرة، ص .(47)

5- Fuller R.C & Myers R. R the natural History of a social problem (June) 1964″. American sociological Review. p. 320

6- Walsh M. E & Furfey P. M، 1958 “social problem & social action. Englewood Cliffds، N. J prenic – Hall، pp 1-2

7- Rabb E،، 1973،  Major social problem. New york. Harper & Row. p. 3.

[9] –  فتحي أبو العينين. سوسيولوجيّة المُشكلات الاجتماعيّة : دراسة نقديّة مع إشارة خاصة لمجتمعات الخليج العربيّة، ورقة مقدمة إلى ندوة قضايا التغير في المُجتمع القطري في القرن العشرين ( 25- 28 فبراير 1989 ). جامعة قطر، مركز الوثائق والدراسات الإنسانيّة، ص 391.

[10] – Earl Rulington and Martin S Weinberg، the solution of social problems، op cit، p. 244.

[11] – نجد عرضًا إضافيًا حول رؤيّة اتجاه التسميّة في فهم وتفسير المُشكلات الاجتماعيّة :شاديّة قناوي، سوسيولوجيا المُشكلات الاجتماعيّة وأزمة الاجتماع المعاصر، دار قباء للطباعة والنشر والتوزيع. القاهرة، 2000، ص 75 / 96.

[12] – Martin S. Wenberg and Earl Rubington. the solution of problem. op cit، p. 246.

[13] – فتحي أبو العينين، مصدر سابق.

[14] – Paul B.Hortton and Other،   1991: The sociology of social problem. prentice Hall. New Jersey. P. 28

[15] – فتحي أو العينين، مصدر سابق صـ20

[16]–  Paul B.Hortton and Other:1997،The sociology of social problem. prentice Hall.. P. 15

[17] – Howards S. Becker. Outsiders:1973، studies in The sociology of Deviance New york Free Press. P 9.

[18] – Jerome Manize:Analyzing social problem of cit، P. 15.

[19] – OP. cit. 16.

[20] – لقد غالى بعض العلماء في تصوير الأزمة التي تَمرُّ بها مجتمعاتها أنها مشكلات اجتماعيّة. فوليام ل. جارسيون William L. Garrison  لم يُصنَّف العبوديّة كمرحلة من مراحل التطور الإنساني، ولكن كمشكلة اجتماعيّة، وإليزابيث جاوي ستانتون  Elizab Gady Stanton   تنظر إلى حرمان المرأة من حق المشاركة السياسيّة على كونه مشكلة اجتماعيّة . بينما يصور السيناتور جوزيف S. Joseph  الشيوعيّة كمشكلة اجتماعيّة . ويشير ميشيل هارينجتون  Michael Harrington إلى الفقر في أمريكا الأخرى The Other American  كأحد المُشكلات الاجتماعيّة البارزة، وحديثا يعرف سيمون هارش  Seymoyr Hersh القتل على أنه مشكلة اجتماعيّة . ويرى رالف نادر Ralph Nader  أن نقص التحكم النوعي في الصناعة يمثل المشكلة اجتماعيّة يجب الالتفات إليها.. إلخ انظر في تفاصيل ذلك  :

Martin S. Wenberg and Earl Rubington، The Solution of Social Problem، OP. cit، p 245.

[21] – Schur، Edwin M، Harper & 1971، Labeling Deviant behavior New york :.

نقلًا عن جيروم ج. مأنيس تحليل المُشكلات الاجتماعيّة ( الترجمة العربيّة). مصدر سابق ص 59 – 60.

[22] – المصدر السابق ص 60.

[23] – Schur، Thomes، Being Meutally ill. Chicego:Aldine، 1966

نقلا عن جيروم ج. مانيس تحليل المُشكلات الاجتماعيّة، مصدر سابق ص 60.

[24] – Waller R Gove، social Reaction as an Explanation of Mental IIness:an Evaluation American Sociological Review 35 ( October 1970 ) PP. 873 – 84.

نقلًا عن جيروم ج. مانيس، المصدر السابق نفس المكان.

[25] – نجد مناقشة ضافيّة لأهم الانتقادات التي وجهت إلى نموذج التسميّة في المصدر الهام التالي: شاديّة قناوي: سوسيولوجيّة المُشكلات الاجتماعيّة وأزمة علم الاجتماع مصدر سابق و ص 93 – 96

[26] – سالم ساري. مصدر سابق ص 56.

[27] – علاء سليمان احمد‘ 1997، التفاعل الاجتماعي بين السجناء المفرج عنهم والمجتمع المحلي –دراسة ميدانيّة على نمط الوصم ونتائجه في منطقة مكة المكرمة، المكتبة المركزيّة –جامعة القاهرة، ص (47)

[28] – Ibid، P. 160

[29]–  R. Merton، 1975،”Social Structure And anomie “American Sociological Review، VOL.3،672

[30] – J.Dougles، 1982، ” Delinquency and Social Class”، Bristh Journal Of Criminalogy، PP 66-67

[31]–  علاء سليمان أحمد‘ 1997، مرجع سابق، ص 38-41

[32]محمد سيد فهمي، السيد رمضان، 1984،الفئات الخاصة من منظور الخدمة الاجتماعيّة ( المجرمين المعوقين ) المكتب الجامعي الحديث، الإسكندريّة، ص 106 – 107

[33]عبد الله عبد الغني غانم، 1985، “مجتمع السجين” دراسة أنثربولوجيّة، المكتب الجامعي الحديث، الإسكندريّة ص 321

[34]أنور محمد الشرقاوي 1970، “دراسة لأبعاد مفهوم الذات لدى الجانحين ” رسالة ماجستير، كليّة التربيّة . عين شمس ص97

[35] – D. Shoemoker، theorias of deling uncey an exanination of expalantion of delinquent behavior، New York، Oxford University Press، 1984. p.180

[36] – Lemert، Sociel pathology، Op-Cil. P. 171

[37] – H. Becker. Outsiders، Op. Cit I. pp. 8-9

[38] – المركز العربي للدراسات الأمنيّة ، المسئوليّة الجزائيّة المترتبة على الأفراد السجناء، الرياض، 1413هـ. ص 75-85

[39] – Lavfave and Scott، Criminal law، Colorado West، Pul، Co. 1922 p.498

[40] – المسئوليّة الجزائيّة على فرار السجناء، مرجع سابق، ص ص 69 – 79

[41] – E. Goffman، The presentation of Self Very Day life، Garden City، N،Y. Double Day Anchor، 959، pp. 151 – 152

[42] – المسئوليّة الجزائيّة المترتبة على فرار السجناء، مرجع سابق، ص ص 84 -87

[43] – Ropert Fishman، Criminal، Recidivism in New York City New York، Praeger، U.S.A، 1977

44))أحمد عبد العزيز القوصي (1965) العودة إلى الجريمة والاعتياد على الإجرام، المركز القومي للبحوث الاجتماعيّة والجنائيّة، جامعة القاهرة، القاهرة ص 80ـــــ85