أخبار عاجلة
الرئيسية / في الصحافة / مقالات / محمد السمالوسي يكتب: «سجين» ..بين مُرّين
مؤسسة حياه للتنمية والدمج المجتمعي Untitled-1-copy محمد السمالوسي يكتب:  «سجين» ..بين مُرّين

محمد السمالوسي يكتب: «سجين» ..بين مُرّين

«أخطأت فنلت عقابي، فلماذا أُجبر على أن أكمل حياتي بين مُرّين» عبارة حارّة قالها مُفرج عنه حديثًاً، هذه الكلمة الأليمة تعكس المعاناة التي تسكنه، الألم الذي يكويه، اللوعة التي تنهشه، الحزن العاكف على حبات فؤاده الكسير.

فالأصل في السجن أنه مؤسسة عِقابية للإصلاح والتهذيب وتعديل السلوكيات الخاطئة، فهو منظومة بنائية وليست منظومة للهدم، بمعنى أنه من خلالها يُمكن للمخطئ أن يعود لحياته الطبيعية، ولكن على العكس من هذا، فقد أصبحت السجون مفارخ للعنف والتطرف والإجرام الاحترافي، ومنبعًا لصقل المهارات القاضية على أي أمل في الإصلاح، وهذا الأمر جدُّ خطير؛ لأنه يُنذر بكارثة اجتماعية تعرقل الاستقرار والضبط الاجتماعي والسلام والرخاء الجمعي؛ لأن البيئة الإجراميّة تفتح عقل السجين على أمور لم يكن يدركها أو يفكر فيها.

فالسجين إنسان عادي شأنه شأن بقية البشر، يُخطئ كما يُخطئون.. ربما أثر تربوي أو نفسي أو اجتماعي أو ثقافي أو قلة الوازع الديني، دفعه إلى الجريمة!

هذا الإنسان، قضى عقوبته، وخرج ليبدأ حياته من جديد، تائبًا لربه، طالبًا عفو مجتمعه، عازمًا على النجاح والبناء.. ولكن المُفرَج عنه هذا يُعاني مرارت، وسأقتصر هنا على مُرين:

– أولاً : مُر الهجران: هو معاناته مع مجتمع غير متسامح، فهو أصبح موصومًا بوصمة لا تُفارقه، فإذا أراد العمل، فصحيفته الجنائية تلاحقه بحضور الوصمة أينما ذهب، وإذا أراد الزواج، فتاريخه الاجتماعي ساكن بين ألسنة القوم، وإذا أراد الانطلاق.. فإن طعنات الوصمات تكبله.. فماذا يفعل؟!، وهو يرى نفسه منبوذًا من أسرته التي أصبحت تراه سبب عارهم، وجيرانه ينظرون إليه نظرة ازدراء واحتقار، فهو في نظرهم مرض مُعدي يجب أن يتجنبوه بل ينبذوه ويفرون منه، حتى في مناسباته أو مناسباتهم يخشون حضوره، وأصبح بلا صديق أو داعم رشيد.

ياقوم إذا كان الله يعفو عن من أتى بقراب الأرض خطايا، فلماذا لاتعفون، إذا كان الله يقبل التوبة فلماذا لاتقبلون.. فأنا أخطأت ونلت عقابي، سنوات قضيتها من عمري بين جدران أربع، تجرعت فيها آلام عديدة طهرتني. تجرعت ألم السجن والإهانة والعقاب، تجرعت ألم الفراق عن الأهل والأحباب، تجرعت ألم تأنيب الضمير على ما اقترفت يداي، خلوت بنفسي وهذبتها، وتبت لربي وشعرت بقبوله، رحمني ربي وقبل توبتي فلم لا ترحمونني أنتم وتقبلون صحبتي؟

ارحموا ضعفي، وساعدوني على الرجوع إلى أحضانكم.. لا تجعلوا مني شخصية عدوانية عصبية حادة المزاج تجاهكم.. ابحثوا عن النور الذي في داخلي لكم.. ولا تضطروني إلى المُر المشئوم.

– المر المشئوم الآخر: بعد أن أعرضت عنه كل الوجوه وأغلقت في وجهه كل الأبواب ولم يجد آذانًا تُصغي له أو قلوبًا رحيمة تحتويه أو عقولًا نيّرة تستوعبه.. قرر أن يعود لجرائمه، قرر أن ينتقم من هذا المجتمع المنافق الذي يدعي أهله قداسة وملائكية وهم غارقون في الوحل، ماذا يضيرني فأنا ميت ميت!، مجرم مجرم، رَد سجون.. وهاهم أخوتي أنصاري وشركائي في الجُرم، أنا معهم أشعر بذاتي، وجراحاتنا متقاربة، فهم لن ينبذونني لأنهم مَنبوذون، لن يحقرونني فهم مُحقرون، لن يهينونني فهم مُهانون.. فأنا معهم على هذا المجتمع المريض.. سنسرقهم! سنضربهم! سنرجفهم! وإذا عدت للسجن، فهذا قدري المحتوم الذي أجبرت عليه!

هذان المُران يُعاني السجين الشاب الجنائي منهما، فما بالنا بالسجين المتزوج، والسجين صاحب الأولاد والبنات.. هل لأولاده مستقبلًا ؟.. هل لبناته حياة مستقبلية واعدة أم إنها بنت سجين!

إن انتشار الجرائم والعود للجريمة يبدأ من هذه المنطلقات والتفكير السلبي من المجتمع تجاه المُفرج عنه، فلو تسامح المجتمع معه، وساعده وأهلَهُ لبداية جديدة بشعار #ابدأ_حياه #اذهبوا_فأنتم_الطلقاء، وسعوا جادين إلى ترميمه ومساندته لكي يصبح إنسانًا صالحًا ناجحًا مِعطاءًا، ما فكّر يومًا أن يعود إلى الجريمة مرة أخرى.. فإن تجفيف الجرائم يبدأ من هنا!

وتُعد “مؤسسة حياه للتنمية والدمج المجتمعي”، واحدة من أهم التجارب الواعدة في البيئة العربية لتأهيل المُفرج عنهم والعمل على إدماجهم اجتماعيًا ومساعدتهم على البدء من جديد، حيث تعمل المؤسسة على التحرك في كافة الجوانب التي يحتاجها المُفرج عنه، فتقدم له الدعم القانوني، والتعزيز النفسي، والسند الاجتماعي، والحق الوظيفي…….. الخ !

وهذه التجربة رائدة في العمل الاجتماعي النوعي، حيث أنها تتحرك في منطقة قلما يُلتفت إليها، وهي بهذا تقوم بالدور الذي ينبغي أن تقوم به الدولة.

وبعد هذا الطرح السريع يجب أن نعترف أن نظام السجون يحتاج إعادة نظر من جميع أركانه ومراحله وجدية تطبيق قوانينه. وأن المجتمع في حاجة ماسة إلى درجة من الوعي تجعله يُصحح نظرته لمثل هذه الفئات ويُحسن احتواءها لمصلحة المجتمع نفسه قبل أي مصلحة أخرى.

وختامًا أقول:

إنه على المُفرج عنه ألا يستسلم فعليه أن يُحاول كثيرًا، وينظر بعقل رشيد، ونفس وثابة، ويسعى جادًا في تغيير جميع أوضاعه، حتى يرى المجتمع أفعاله الخيرة، فالحياة مليئة بالصعاب والصراعات إما أن تقاوم وتصبر لإصلاح ذاتك أو تستمر في لعب دور الضحية.. ولكن أنت تستطيع أن تُحقق ذاتك!